تتسارع وتيرة السجالات السياسية في لبنان على وقع الجدل المحتدم حول قانون الانتخابات النيابية، وسط مخاوف جدية من أن تؤدي الخلافات إلى نسف الاستحقاق برمته، في بلد اعتاد ترحيل أزماته من استحقاق إلى آخر، علمًا أنّ المهل الدستورية تحكم مسار التحضيرات، مع انطلاق تسجيل المغتربين، وهو ما يضاعف الضغط على القوى السياسية ويكشف عمق الانقسامات حول النصوص والآليات.
ففي وقتٍ بدأ العمل حكوميًا على المسار التنفيذي من أجل تطبيق قانون الانتخاب الساري، تبقى العقدة الأساسية في مجلس النواب، حيث تختلف القوى السياسية على تعديلات أو مقاربات تبدو في ظاهرها تقنية، لكنها في الجوهر انعكاس لصراع نفوذ واصطفافات متعارضة. وهكذا، يصبح النقاش حول تفاصيل مثل التسجيل المسبق أو طريقة احتساب الصوت التفضيلي ساحة مواجهة سياسية كبرى، تخفي خلفها نوايا مبيّتة كثيرة.
وبينما تتحدث أوساط سياسية عن رهان متزايد على تدخل رئيس الجمهورية جوزاف عون لإنقاذ الاستحقاق من التعطيل، تبدو الصورة أكثر تعقيدًا، إذ يواجه الرجل معضلة دقيقة: التدخل في التوقيت المناسب لتجنيب البلاد أزمة سياسية، من دون أن يُحسب موقفه كاصطفاف مع طرف ضد آخر. وفي ظل هذا المناخ، يخيّم شبح سيناريوهات سابقة عندما أطاحت الخلافات بالانتخابات وأدت إلى تمديد عمر المجلس النيابي.
اشتباك حول القانون يطيح الثقة
لم تعد الخلافات على قانون الانتخاب مجرد نقاشات تقنية، بل تحوّلت إلى عنوان لأزمة ثقة عميقة بين القوى السياسية. فالمعارضة تتهم
رئيس مجلس النواب نبيه بري بمحاولة فرض وقائع تشريعية على حساب التوافق، مستشهدة بتعطيل الجلسة التشريعية الأخيرة، معتبرة أن قرارها بالانسحاب يعكس رفضها لأي محاولة لتجاوز التوازنات القائمة، وهو ما ردّ عليه مقرّبون من
بري بالقول إنّ أي محاولة لتعطيل القانون عبر التشكيك في شرعية الجلسات ستنعكس سلبًا على صدقية المعارضين أنفسهم.
ويرى العارفون أنّ هذا الاشتباك السياسي مرشّح للتصاعد، خصوصًا مع رفع المعارضين لسقفهم، كما فعل
رئيس حزب "
القوات اللبنانية" سمير جعجع الذي حمّل بري مسؤولية تعطيل الجلسة التشريعية، معتبرًا أن رئيس المجلس يسعى إلى استخدام موقعه لفرض قانون انتخاب يخدم مصالح فريقه السياسي. وهكذا، يتحوّل النقاش حول بنود تقنية إلى معركة سياسية صريحة تهدد بنسف الثقة المتبادلة داخل المؤسسات.
وفي ظل انسداد أفق التفاهم داخل البرلمان، بدأ الرهان يزداد على تدخل رئاسي. فالرئيس جوزاف عون، الذي يحرص منذ انتخابه على تقديم نفسه كمرجعية ضامنة، يجد نفسه اليوم أمام استحقاق حساس: إما أن يترك الأمور لمجرياتها داخل المؤسسات، وإما أن يتدخل بخطوة توحي بمسعى إنقاذي يهدف إلى تبريد الأجواء ومنع الانزلاق نحو أزمة حكم شاملة، خصوصاً أنّ هناك من بدأ يروّج منذ الآن إلى سقوط خيار الانتخابات.
هل يتدخل عون؟
بعض الأوساط السياسية تعتبر أن
الرئيس عون قد يتدخل في الوقت المناسب عبر دعوة القوى السياسية إلى حوار أو لقاء مصغّر يعيد رسم خريطة تفاهمات أولية، وهو سيناريو يستند إلى تجارب سابقة عندما لعب رؤساء الجمهورية أدوارًا حاسمة في تجنيب البلاد تمديدًا أو فراغًا. وتضيف هذه الأوساط أن أي غياب لمبادرة رئاسية قد يفتح الباب أمام أزمة سياسية شبيهة بما حدث عام 2013، عندما أدت الخلافات حول القانون إلى التمديد للمجلس النيابي.
في المقابل، يحذر خصوم الرئيس من أن تدخله المبكر قد يُقرأ سياسيًا في غير محله، وقد يُتهم بأنه يميل إلى جهة معينة في الخلاف. لذلك، يتعامل عون بحذر شديد مع هذه الدعوات، مدركًا أن أي خطوة غير محسوبة قد تنعكس على صورته كضامن ومرجعية، بدل أن تمنحه دور الحكم، علمًا أنّه يعتبر أنّ المجلس النيابي يجب أن يلعب دوره في هذه المرحلة، وعندما يخفق، يتم البحث عن الحلول البديلة.
وفي غمرة النقاشات
اللبنانية التي تبدو "عقيمة" حول الانتخابات، تبرز إشارات دولية بأنّ أي محاولة لتطيير الانتخابات ستُقابل برد فعل قوي، لكن الضغوط الدولية، على أهميتها، لا تكفي وحدها لضمان احترام المهل. فالأزمة لبنانية في جوهرها، تتعلق بانقسامات القوى حول قواعد اللعبة نفسها: أي قانون، أي دوائر، وكيفية التعامل مع أصوات المغتربين. ومع غياب تفاهم سياسي صلب، يظل احتمال الانزلاق إلى أزمة مفتوحة قائمًا.
أضحت الخلافات حول قانون الانتخاب انعكاسًا لصراع سياسي مفتوح يضع الانتخابات النيابية المقبلة على المحك. وبين مجلس نواب منقسم، ومعارضة ترفع السقف، ورئيس مجلس يحاول فرض إيقاعه، ورئاسة
جمهورية مترددة في التدخل، تبدو البلاد أمام اختبار جديد. فإما أن ينجح الفرقاء في التفاهم على مخارج تحفظ الاستحقاق وتكرّس صدقية المؤسسات، أو ينزلق المشهد مجددًا إلى فراغ وتشكيك يضاعف أزمات لبنان المفتوحة على كل الاحتمالات.