التصعيد الإقليمي الذي يشهده
الشرق الأوسط في هذه المرحلة لا يمكن النظر إليه كحدث عابر أو كسحابة صيف ستنقضي بانتهاء الحرب الدائرة في غزة.
فمحاولات
الولايات المتحدة الأميركية الحثيثة لإنهاء هذه الحرب، سواء عبر الضغوط السياسية أو من خلال الوساطات الإقليمية والدولية، لا تعني إطلاقًا أن المنطقة مقبلة على مرحلة هدوء واستقرار. على العكس تمامًا، هناك مؤشرات كثيرة تدل على أن ما بعد وقف إطلاق النار في غزة قد يكون أخطر وأكثر حساسية، وأن المنطقة قد تدخل مرحلة جديدة من التصعيد، يكون
لبنان أحد أبرز ساحاتها.
إمكانية انتقال التصعيد إلى الساحة
اللبنانية تبقى قائمة بقوة، رغم إدراك الجميع، وعلى رأسهم
إسرائيل، لحجم المخاطر التي قد تترتب على ذلك. ففتح جبهة لبنان يعني تعريض حكومة
بنيامين نتنياهو لاختبار بالغ الصعوبة، إذ إن أي مواجهة واسعة هناك قد تهدد كل ما تعتبره
تل أبيب "مكتسبات" حققتها في الأشهر الماضية، سواء على المستوى الميداني أو السياسي. فالخطورة تكمن في أن الحزب إذا تمكن من مفاجأة إســرائيل عبر عمليات نوعية كبيرة أو من خلال إعادة ترميم قدراته العسكرية واللوجستية، ثم نجح في تكبيدها خسائر مؤلمة في الميدان البري، فإن المشهد بأسره سيتبدل، وقد تجد تل أبيب نفسها أمام واقع جديد غير محسوب النتائج.
لكن كل ذلك يبقى مرتبطًا بعامل حاسم: الموقف من
إيران. فإذا لم تنجح إسـرائيل والولايات المتحدة في توجيه ضربة قاضية لإيران، أو في إلحاق أذى كبير بنظامها السياسي وببنيته الداخلية، فإن أي مواجهة في لبنان أو غيره ستبقى محدودة الأثر، بل وقد تؤدي إلى نتائج عكسية. إذ إن صمود
طهران في وجه الضغوط، وقدرتها على الاستمرار في دعم حلفائها وتوسيع نفوذهم، سيعيد ترتيب الأوراق في الإقليم ويغير موازين القوى بشكل جوهري.
وعليه، فإن استمرار التصعيد وذهابه نحو رسم معادلات جديدة سيضع المنطقة أمام احتمالين لا ثالث لهما: الأول، أن تنجح إيران وحلفاؤها، وفي مقدمهم
حزب الله في لبنان، في الصمود وتحقيق إنجازات ميدانية وسياسية، وهو ما سيعيد التوازن الاستراتيجي في المنطقة ويضع حدًا للهيمنة الأميركية الأحادية. أما الاحتمال الثاني، فهو أن تتعرض هذه القوى لهزيمة كبرى تؤدي إلى انهيار منظومتها ونفوذها، ما يفتح الباب أمام مرحلة طويلة من التفوق الأميركي المطلق، قد تمتد لعقود مقبلة.
في الحالتين، يبدو أن الشرق الأوسط مقبل على مرحلة مفصلية، وأن وقف النار في غزة لن يكون سوى محطة مؤقتة في مسار صراع أوسع وأعمق، قد تكون الساحة اللبنانية أحد أبرز تجلياته في
المستقبل القريب.