لا يعرف أحد ما يشعر به من اختار أن ينهي حياته بيده. إلا أن الخسارة أقل ما يقال فيها إنها مفجعة، مهما كان السبب وراء هذا الخيار. في السنوات الأخيرة، باتت ظاهرة انتحار جيل الشباب أكثر بروزاً ، فيما تظهر أرقام وإحصاءات رسمية وغير حكومية مؤشرات مقلقة عن تدهور الصحة النفسية لدى هذه الفئة العمرية تحديداً.
لا يمكن لأحد أن يتخيّل ما كان يفكّر به ابن الـ17 عاماً حين قرر أن يطلق النار على نفسه في بلدة جعيتا، ليفارق الحياة بكل ما أوجعته فيها. أما في منطقة بربور، فالسيناريو نفسه تكرر مع شابّ عشريني أقدم على إنهاء حياته رغم المحاولات الفاشلة لثنيه عن الانتحار.
بحسب إحصاءات صادرة عن
قوى الأمن الداخلي لعام 2025، سجّل
لبنان أكثر من 150 حالة انتحار خلال الأشهر التسعة الأولى من العام، معظمها بين الفئة العمرية الممتدة بين 18 و35 عاماً. وتشير الجمعيات المعنية بالصحة النفسية، مثل "إمبرايس" (Embrace)، إلى أن الأرقام الحقيقية قد تكون أعلى من ذلك بسبب امتناع بعض العائلات عن الإبلاغ لأسباب دينية أو اجتماعية.
إلا أنه وفق بيانات منظمات محلية، الأرقام منذ العام 2023 الذي سجّل ما لا يقل عن 168 حالة وفاة انتحارية، غير مطمئنة على الإطلاق ما يثير مخاوف متزايدة لدى الجهات الصحية والاجتماعية.
يُجمع الخبراء على أن الأزمة الاقتصادية الخانقة تشكل السبب الأول وراء ارتفاع نسب الانتحار. فمنذ انهيار الليرة
اللبنانية عام 2019، وتبخر مدخرات المواطنين في المصارف، وجد آلاف الشباب أنفسهم عاجزين عن تحقيق أبسط طموحاتهم أو حتى الحلم بمستقبل أفضل. ومع ارتفاع معدلات البطالة التي تجاوزت 40% في أوساط الشباب عام 2025، أصبح الإحباط سيد الموقف، خصوصاً في ظل غياب أي خطة إنقاذ حقيقية من الدولة.
ولا تقتصر الأسباب على البعد المادي فقط، بل تتعداها إلى العوامل النفسية والاجتماعية. فالعزلة، وانعدام الثقة بالمستقبل، وغياب الدعم الأسري والمؤسساتي، وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي تعزز المقارنات والضغط النفسي كلها تؤدي إلى تفاقم الشعور بالعجز.
وفي حين أن لبنان يعيش أزمة صحة نفسية حقيقية آخذة في التفاقم منذ سنوات، يشدد خبراء نفسيون على ضرورة وضع استراتيجية وطنية متكاملة للصحة النفسية، تبدأ من المدارس والجامعات وتصل إلى السياسات الاجتماعية.
ففي ظل غياب أي تحرك على المستوى الرسمي للحد من انتشار هذه الظاهرة، لا يخلو المشهد من مبادرات أمل. فجمعيات محلية تعمل على توفير خطوط ساخنة مجانية للدعم النفسي على مدار الساعة، وتطلق حملات توعية في الجامعات والأحياء الشعبية لتشجيع الناس على طلب المساعدة قبل فوات الأوان. كما بدأت بعض البلديات بإطلاق برامج مجتمعية للتدريب المهني ودعم الشباب نفسياً ومادياً.
لكن هذه الجهود تبقى محدودة أمام حجم الكارثة. فحين يفقد الشباب، عماد المجتمع، ثقتهم بالحياة وبالدولة، يصبح خطر الانتحار جرس إنذار يُهدد بنية الوطن بأسره.
في النهاية، لا يمكن النظر إلى انتحار الشباب كأرقام في جدول إحصائي، بل كنداء استغاثة صامت من جيل يبحث عن معنى للحياة في وطنٍ لم يعد يمنحه الأمان ولا
المستقبل.