أدى نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الاعلى العلامة الشيخ علي الخطيب الصلاة في مقر المجلس في طريق المطار، وألقى خطبة الجمعة التي قال فيها: "من المفيد اليوم ونحن ما زلنا نعيش في
لبنان والعالم العربي والاسلامي صراعاً حضارياً مستمراً مع الغرب، بدأ منذ ان بزغ فيها نور الاسلام ولم يهدأ .. رأيت أن استعرض هذا الواقع لنتلمس ولو بشكل عام حقيقة ما يجري وما هي المراحل التي مرَّ بها هذا الصراع، وهل هناك من رابط بين أشكال هذا الصراع الذي اتخذ دائما طابعا دمويا حضاريا إخضاعيا استُبعدت فيه الحلول السلمية.
ولئن أُشغِلت الساحات العربية والاسلامية في السنوات الاخيرة من القرن الماضي، خصوصاً بعد التخلّص من الاستعمار الظاهري، متخذاً شكلاً من أشكال الاستقلال ونشوء الدولة الوطنية، أُشغِلَت هذه المجتمعات بصراعات ذات طابع فكري فلسفي بين تيارات فكرية فلسفية مختلفة، كانت في أكثر الاحيان عنيفة وحادة، الا أنها في واقع الامر لم تكن إلا شكلاً من اشكال استمرار الاستعمار والقضاء على الهوية الحضارية لشعوب هذه المنطقة، لتجويف هذا الاستقلال من معناه الحقيقي وإبقاء السيطرة بشكل خفي وغير مرئي للعامة من الناس على أيدي النخبة التي أُعدت لتنفيذ هذا المشروع فكرياً وثقافياً وتربوياً في المدارس والجامعات التابعة للإرساليات التي أُنشئت للقيام بهذه المهمة. فقد اتبعت هذه الدول الناشئة بالدول التي استعمرتها ثقافياً واقتصادياً وفكرياً وسياسياً عبر سياساتٍ ومخططاتٍ كفيلة بالإبقاء على هذه التبعية لفترة طويلة من الزمن، باتت ترسم لها الخطط والمناهج والسياسات وتُحدّد لها الأهداف".
أضاف :"وكان من بين هذه الخطط هو إشغالها بجدالات عقائدية من صناعتها بعيداً عن فكر الأمة وعقيدتها ودينها وتاريخها الذاتي الذي حرصت على تجهيلها به، بل تشويهه في نظرها وتحميله زوراً وزر تخلّفها لإشغالها عن التفكير في الحصول على استقلالها الحقيقي، وهو فكّ ارتباطها نهائياً ثقافياً وعقائدياً وسياسياً واقتصادياً بها. وهكذا استطاعت أن تستبدل استعمارها المباشر لها باستعمار غير مباشر. كما أن الصراع السياسي الداخلي كان تبعاً للانقسام الداخلي بين الاتجاهات والمدارس الفكرية والفلسفية التي عكست الصراع الفلسفي بين الغرب والشرق، بين اليمين واليسار الذي كانت له نتائج كارثية على المنطقة العربية والاسلامية على كل الصعد. فالصراع الداخلي لم يكن الا تبعاً للصراع الخارجي، وأنتج على الصعيد الداخلي مزيداً من التخلّف والتبعية وعدم الاستقرار".
وتابع الخطيب :"لقد أضاع العرب والمسلمون عهودا من الجهود والتضحيات التي بذلت في سبيل أحلامٍ لم تكن إلا سرابا. وقد أنتج العالم العربي أجيالاً من الكفاءات العلمية التي تخصّصت في أفضل الجامعات الغربية أو الوطنية، ولكنه كان عاجزاً عن استثمارها في الداخل، فوُضعت بين خيارين: إما أن تبقى في بلادها من دون أن يُسمح لها أن تستسثمر هذه الكفاءات الوطنية، أو تهاجر لتكون في خدمة تلك الدول الاستعمارية المهيمنة، أو لعدم الاستقرار الداخلي في الدول الوطنية بتخطيط من هذه الدول. ولتحافظ الدول الغربية على نفوذها واستمراره صنعت هذا المولود المشوه، ليكون قاعدة وظيفية متقدمة لها في المنطقة اسمها اسراييل، وليكون يدها التي تبطش بها عند أي محاولة للانعتاق من هذا الكابوس.
وبذلك استطاعت الدول الغربية بالأخص أن تُبقي على نفوذها وسيطرتها على ثرواتنا وتبعية دولنا خدمة لمصالحها.. لقد وُظّفت شعوبنا ودولنا في الصراع القائم بين القوى الكبرى من دون أن يكون لها أي حساب في الميزان. فالتسويات بعد الصراعات تكون بين المتصارعين والأنداد، أما نحن فلن يكون حظنا منها سوى أن نكون سلعة المساومة بينهم".
وأردف الخطيب :"إلا أن هذه الامة لم تعدم الوسيلة. فقد زرع فيها الاسلام بذور التحدي والحياة بالمراكز التي بقيت تمدها بقوة الوعي والعلم والمعرفة المتمثلة بالحوزات العلمية التي عجز الغرب عن أن ينفذ اليها وأن يلوث افكارها، بعد مواجهات عنيفة تعرضت فيها لمحاولات الاستئصال بالقتل والاعدام أو فصلها عن أمتها وقضايا شعوبها ومقارعة التضليل والتشويه على أيدي رجالها من العلماء المخلصين الذين استطاعوا أن يئدوا الافكار الالحادية، وأن يفضحوا فلسفة الغرب الرأسمالية ويعيدوا الصراع الى حقيقته، صراعاً على التحرّر والاستقلال الحقيقيين، وأن يعيدوا الاسلام الحقيقي الى ساحة المواجهة مع الغرب بقوة، ويثبتوا في ساحة المواجهة قدرته
على استعادة الكرامة للأمة، وانه ما زال حياً وفاعلاً، فلم تستطع كل المحاولات ان تخرجه من دائرة التأثير في الامة.
وهنا تدور اليوم رحى المعركة الحقيقية، في مواجهة محاولات إعادته الى القمقم عبر التشويه والفتن واختراع إسلام مشوّه.. إسلام الاستسلام والتبرير للجرائم والاحتلال الذي يحرّم المقاومة والاستشهاد في مواجهة أعداء الامة، ويكفّر أهلها ويُحلّل دماءهم ويتنكّر لتضحياتهم ويتهمهم بأشنع التهم".
وتوجه الى الحاضرين : "نحن اليوم أيها الاخوة، نخوض الى جانب مقارعة الغرب واعتداءاته وهمجيته، حربا أخرى أخطر بكثير، وليس معركة مواجهة مع أحد. فنحن أبعد ما نكون عن السقوط في ما ينصبه لنا العدو من أفخاخ، وإنما نخوض معركة الوعي للأمة عبر فضح وكشف خداع العدو وافتراءاته، وأن المعركة ليست بيننا وبين إخواننا من أهل السنة والجماعة كما يريدها ويروج لها العدو وعملاؤه، بل هي معركة أساسها معهم، ونحن إنّما أُريد لنا أن نكون سنداً لهم.
ففلسطين تم احتلالها والتآمر على أهلها من الغرب، ولأننا نعتبر أن هذه معركة حضارية وأنها معركة ضد الاسلام وضد الأديان والقيم، اعتبرناها معركتنا وواجبنا فيها مساندة إخواننا. فنحن لسنا جزءاً منفصلاً عن أمتنا بكل تلاوينها المذهبية، وإنما نحن جميعاً أمة واحدة لا تنفصل ولا تتجزأ كما أمر ربنا سبحانه وتعالى".
وأكمل الخطيب :"لقد أراد الغرب بعد ان رأى انهيار أحلامه بعد كل ما بذله واطمأن الى أن الأمة قد استسلمت واذعنت لمطالبه، وانها بدت أمة ميتة لا حراك فيها، فإذا بها وبفئة قليلة منها تذلّه وتفرض شروطها عليه في غزة وجنوب لبنان. لقد زلزل هذا الحدث أركانه فهبّ لإطفاء هذه الجذوة خوف أن تشتعل نيرانها فتحرق الارض من تحت أقدامه.
إنّ أهم ما تهدف اليه هذه المواجهة ايها الاخوة، ليس تحرير فلسطين وبيت المقدس اليوم وفي هذه الساعة، وانما أن تعي الأمة أن ما لديها من القوة الكامنة ما تستطيع به أن تواجه كل الاخطار، وأن موازين القوة هو في صالح العرب والمسلمين، وليس كما أراد الغرب أن يفهمنا انها موازين في العدة والعتاد. فالإيمان يصنع المعجزات.. أوليس هذا في كتابكم وهو القرآن الكريم، وان النصر بيد الله وليس بالطائرات والدبابات التي يراد عبرها ابعادكم عن القوة الحقيقية التي لو اعتمدتموها لتصدرتم العالم من جديد؟".
وسأل :"الا تُشكّل هذه المواجهات التي خاضها شعبنا في لبنان وغزة ولم يستطع العالم الذي وقف فيها مع العدو بكل الدعم التسليحي والإعلامي، ولم يستطع فيها أن يُحقّق أهدافه؟.. فالمقاومة ما زالت على اقتدارها ولم يتمكّن مع كل هذا الدعم أن يسحقها أو يجبرها على الاستسلام، بل اضطر الى طلب وقف النار.
هذه هي المعركة الحقيقية معركة استعادة الوعي لأبناء أمتنا، فَحوَّلوها الى معركة أحد، ولا تقعوا في أوهام الذين خالفوا وصية رسول الله (ص) في أحد، ففريق طمعاً في الغنائم وفريق فرَّ خوفاً من القتل وطمعاً في البقاء، ولكن مع ذلك كتب الله النصر لرسوله وللثابتين معه.
لقد تلاقى الأفّاكون والمنافقون على تثبيط عزيمة المقاومين في غزة ولبنان، ولكنهم فشلوا في زعزعة إيمانهم، فوقفوا يصنعون أساطير البطولة والفداء، وحولهم أهلهم ممن منّ الله عليهم بالكرامة والشرف والصبر والثبات، فصنعوا هذا المجد التاريخي لدينهم وامتهم ووطنهم. لقد اقام هؤلاء الحجة على امتهم حيث سجّلوا بهذه الارادة التي لا تنكسر وبهذا العزم الذي لا يلين أروع مواقف الشرف والبطولة".
وأكد الخطيب ان "هذه التضحيات لا تقدمها إلا الأمم الحية ولن تكون بالاستسلام والركون الى حياة الذل والفرار من الواجب. لذلك فنحن اليوم بعد هذه التضحيات مدعوون الى تمتين وحدتنا الداخلية، سواء على الصعيد الوطني أو على الصعيد القومي والإسلامي، وأُكرر ما قلته سابقا أن على تيارات الاسلام السياسي أن تعيد النظر في تجربتها حول موضوع الصراع السياسي على السلطة، وأن تتصالح مع الانظمة وأن تكون الاولوية للصراع مع العدو الذي يعتبره صراعا وجوديا، ان المعركة المقبلة أرادها أن تكون الفاصلة، الأمر الذي يقتضي رصَّ الصفوف لكل القوى استعداداً لها، وهي لا تحتمل الخسارة، فمن يخسر بها يخسر وجوده".
ورأى الخطيب "إنّ لبنان هو الاكثر حاجة في هذا الصراع الى الوحدة الداخلية لأنه الأكثر حساسية في تركيبته الداخلية، والاكثر هشاشة في مواجهة الاختراقات الأمنية، فليتنبّه الجميع الى خطورة الوضع، وليكن هذا دافعاً الى تعزيز الوحدة الداخلية. فالجميع في مركب واحد، إن اغرقه أحد انتقاماً من آخر، فلسوف يغرق الجميع ولن يجد من ينتشله، ولن ينجو من قصد إغراقه كما هي عاقبة البغي، إذ على الباغي تدور الدوائر".
وقال :"إنّ من مهمات الحكومة الاساسية هي تعزيز الوحدة الداخلية بأن تكون حكومة الجميع وفي خدمة
القضايا الوطنية، وأولها رعاية أهلنا الذين دمَّر العدو بيوتهم وارزاقهم، واكتساب ثقتهم بالوفاء بما وعدوا به، وهم أولى باكتساب الرضى من الخارج الذي إنّما يتآمر على الوطن حينما يتآمر عليهم، ويمنع بالحصار من إعادة إعمار بيوتهم التي هُدّمت بأسلحته ويتابع العدوان باغتيال أبنائهم وتدمير بيوتهم ومصادر عيشهم، لكن هذا لم يَفُتّ ولن يفتّ في عضدهم او يجبرهم على الاستسلام,وهو الذي يعيق تطبيق الاتفاق الدولي الذي يقف على رأس ضامنيه، وقد نكث بتعهده والتزامه".
وختم الخطيب :"الحكومة عليها الالتزام بما نصَّ عليه بيانها الوزاري، وما نسمعه من دولة رئيس الحكومة أمر جيد لكن لا نريد وعوداً لا يوفى بها. فالمطلوب الوفاء بكل هذه الالتزامات وتخصيص جانب من الميزانية لترميم البيوت المتضررة على الاقل، ما يعطي الحكومة بعضاً من المصداقية التي يتوقعها المواطنون". (الوكالة الوطنية)