تتقدّم التحضيرات للانتخابات النيابية المقبلة في
لبنان بخطى حذرة، وسط مناخ سياسي مثقل بالريبة والتوجّس. فالتحالفات التي حكمت الدورات السابقة لم تعد على حالها، بعدما أحدثت الحرب
الإسرائيلية الأخيرة على لبنان تبدّلات جوهرية في موازين القوى الداخلية والإقليمية، ولا سيّما في موقع "
حزب الله"ودوره.
في هذا السياق، يجري "حزب الله" و"حركة أمل"مشاورات مكثّفة لترتيب اللوائح وتحديد الترشيحات، وسط معلومات تتحدث عن احتمال تبادل المقاعد بين البقاعين الغربي والأوسط، وربما إدخال تعديلات تطال دائرة جبيل في مقابل أحد المقاعد في الجنوب. وتأتي هذه التبديلات المحتملة في إطار سعي "الثنائي الشيعي" إلى إعادة توزيع نفوذه الانتخابي بما يتلاءم مع الواقع السياسي الجديد، ومع التحديات الأمنية والاقتصادية التي فرضتها مرحلة ما بعد الحرب.
أما "
التيار الوطني الحر"، فيسلك هذه المرة مسارا مختلفاً يقوم على تحالفات تكتيكية محدودة مع الحزب في بعض الدوائر، بعيداً عن التحالف الشامل الذي ميّز المرحلة السابقة. الهدف هو الحفاظ على الحدّ الأدنى من التنسيق السياسي من دون تحمّل تبعات التحالف الكامل، في ظلّ التراجع الشعبي الذي يعيشه"
التيار" داخل الشارع المسيحي. وتشير المعلومات إلى أنّ التعاون بين "التيار" و"حركة أمل" في جزين بات شبه محسوم، في خطوة تعبر عن تحول براغماتي فرضته الضرورات الانتخابية لا التفاهمات الاستراتيجية.
في المقابل، يشهد الشارع السنّي تبدلات واضحة في تموضعه السياسي. فشخصيات مثل فيصل كرامي وحسن مراد، اللذان كانا يعتبران قريبين من "الحزب"، أبلغا قيادة المقاومة أن التحالف غير ممكن هذه المرة، انسجاماً مع التوجه السعودي الحازم القاضي بالابتعاد عن أي تعاون انتخابي مع "حزب الله" أو "
التيار الوطني الحر". كما تبيّن أن "جمعية المشاريع الإسلامية" (الأحباش) في
بيروت لن تكون على اللائحة نفسها مع "الحزب"، في انعكاس واضح للمزاج السعودي السائد الهادف إلى إعادة ترتيب البيت السنّي وقطع أي تماس سياسي مع محور المقاومة.
ورغم تراجع الحديث عن تأجيل الانتخابات، فإن المؤشرات تدلّ على أنّ الاستحقاق المقبل لن يكون في صالح القوى التغييرية التي برزت عام 2022. والسبب أن اقتراع المغتربين هذه المرة لن يُجرى للنواب الـ128 كما حصل في انتخابات 2022، ولن يشمل أيضاً المقاعد الستة المخصّصة للمغتربين وفق القانون النافذ، ما سيحد من تأثير أصوات الاغتراب التي لعبت دوراً محورياً في إيصال عدد من النواب التغييريين. هذا التعديل سيُعيد التوازن إلى القوى التقليدية، ولا سيما "الثنائي الشيعي" والتيار الوطني الحر، اللذين يمتلكان القدرة التنظيمية الأكبر على إدارة المعركة الانتخابية في الداخل، وكذلك "الحزب التقدمي الاشتراكي" وحزب "القوات
اللبنانية" الذي يسعى إلى أن يكون الكتلة الأكبر في البرلمان، مستفيداً من العوامل الداخلية والدعم الخارجي.
غير أن التحدي الداخلي لا ينفصل عن البعد الإقليمي – الأمني الذي يزداد ثقلاً مع اقتراب موعد الاستحقاق. فبحسب مصادر دبلوماسية أميركية، تستعد
إسرائيل لأن تكون لاعباً غير مباشر في الانتخابات اللبنانية عبر تصعيد ميداني محسوب في الجنوب والقرى الحدودية وشمال الليطاني. الهدف من هذا التصعيد، وفق المصادر نفسها، هو إرباك البيئة الشيعية وتخويف الناخبين من خلال استهداف مناطق لم تُستهدف سابقاً مثل المصيلح وأنصار، لمنع انطلاق مشاريع الإعمار في المناطق المحاذية للحدود، وبث الخوف وشل القدرة على الاقتراع في القرى الجنوبية، إلا أن مصادر سياسية محلية ترى أن هذه السياسة قد تأتي بنتائج عكسية، إذ يرجح أن تتضاعف شعبية "حزب الله" داخل بيئته الشيعية، في ظلّ شعور متنام لدى أبناء الطائفة بأنهم يتعرضون لما يشبه الاضطهاد السياسي والاستهداف المنهجي، ما قد يدفعهم إلى مزيد من التماسك والتعبئة حول "الحزب" في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية.
وعليه، يستبعد أن يحصل أي تفاوض سياسي أو تقني بين لبنان وإسرائيل قبل الانتخابات، رغم احتمال تصاعد التوتر الميداني كلما اقترب موعد الاستحقاق، خصوصاً في ظل سعي رئيس الوزراء
الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى استثمار هذا التوتر في خدمة أجندته الداخلية.
بذلك، لن تكون الانتخابات المقبلة مجرد استحقاق ديموقراطي، بل معركة فعلية لتثبيت التوازنات السياسية في لبنان بعد الحرب. ف"الثنائي الشيعي" يخوضها دفاعاً عن مكتسباته وسعياً للحفاظ على 27 نائباً، فيما يحاول "التيار الوطني الحر" إعادة تموضع يضمن بقاءه لاعباً رئيسياً، وتتحرّك القوى السنيّة تحت المظلّة
السعودية، في حين تواجه القوى التغييرية صعوبات تنظيمية وتمويلية تهدّد حضورها النيابي.
النتيجة أن لبنان يتجه نحو انتخابات عالية المخاطر السياسية والأمنية، ستحدد ملامح المرحلة المقبلة داخلياً وخارجياً. فصندوق الاقتراع هذه المرة سيكون ساحة لصراعٍ بين محورين، تتداخل فيه حسابات الداخل برهانات الخارج، وسط مساعٍ محلية وعربية ودولية لتغيير صورة البرلمان بما ينعكس على تركيبة الحكومة المقبلة، في محاولة لقطع الطريق أمام أي إمكانية لامتلاك حزب الله وحركة أمل حلفاء يمنحونهما "الثلث الضامن" أو "الثلث المعطِّل" في حكومة ما بعد برلمان 2026.