خمسة أعوام مضت على الانفجار الذي دمّر مرفأ بيروت وكسَر قلب العاصمة، ولبنان ما يزال يتقلّب بين الأزمات والانهيار والاستهدافات الإسرائيلية المتواصلة على الجنوب. ورغم الجراح المفتوحة، تظهر بيروت قدرة شبه أسطورية على التقاط أنفاسها من بين الردم، كأنها مدينة تعاهد الحياة على الاستمرار مهما اشتدّ عليها الخراب.
في قلب هذا المشهد، جاء معرض "ديفا… من
أم كلثوم إلى داليدا" في متحف سرسق وكأنه إعلان ثقافي صريح: في بيروت، يمكن للرصاصة أن تغتال جسدًا، لكنها لا تغتال ذاكرة ولا صوتًا. فالمعرض لا يكتفي باستعادة أسماء أسطورية من ذاكرة الغناء العربي، بل يعيد طرح سؤال عميق: لماذا
لا تموت بعض الأصوات مهما تغيّرت العصور؟
ذاكرة عربية تمشي على شكل أصوات
في صالات المعرض، لا تتحرّك الذاكرة بصريًا فحسب، بل سمعيًا أيضًا. يكفي أن يعلو مقطع من "أنت عمري" أو أن تُطل
فيروز من إحدى الزوايا لتقول "لبيروت" حتى يتكشّف المعنى الحقيقي للمعرض: الأصوات لا تُخلّد في التاريخ لأنها جميلة فقط، بل لأنها تعبُر الوجدان الجماعي وتصنع ذاكرة مشتركة للأمة.
هنا تتحوّل "الديفا" من لقب فني إلى رمز ثقافي. فلو لم تكن أم كلثوم أكثر من مطربة، لما أصبحت جزءًا من الوعي العربي. ولو كانت فيروز مجرد صوت جميل، لما صمدت أغانيها في الحرب والسلم والحرائق والردم. ولو لم تكن صباح درسًا في الشخصية الحرة والجرأة الأنثوية، لما تحوّلت إلى حالة اجتماعية عابرة للأجيال.
المعرض كهوية… لا كعرض فني فقط
ما يميّز هذا الحدث الثقافي ليس زخرفة الذاكرة ولا الفساتين الاستعراضية التي تعلق على الجدران، بل كونه يعيد الاعتبار لفكرة "الهوية الفنية العربية". الأصوات التي خصّها المعرض ليست وجوهًا من الماضي، بل جذورًا تمتد في حاضرٍ يفتّته الشتات والتفكك والانهيار.
في هذا الزمن الرقمي السريع، حيث يختفي الفنان أسرع مما يظهر، يصبح المعرض بمثابة استعادة للقيمة، ورفضًا لعصر "الأغنية السريعة" و"الشهرة الرخيصة". هو نوع من
المقاومة الثقافية غير المعلنة.. "فالجودة تبقى… والضجيج يمرّ".
بيروت… مدينة تصنع الحياة رغم كل شيء
أهمية المعرض لا تكمن فقط في مضمونه الفني، بل في توقيته ومكانه. فبيروت التي دخلت مرحلة ما بعد الانفجارات والاغتيالات والحروب، تبحث عن ترميم روحها قبل ترميم حجارتها. وهذا المعرض يشبه محاولة تنفّس جماعي لمدينة أنهكتها السياسة والدمار والاقتصاد، لكنها ما زالت ترفض أن تسقط في العتمة النهائية.
"ديفا" ليس معرضًا عن الماضي، بل درس في المعنى الحقيقي للذاكرة. إنه يذكّرنا أن الأمم لا تبقى لأنها قوية عسكريًا أو ثرية اقتصاديًا فقط، بل لأنها تعرف كيف تحافظ على روحها من خلال الموسيقى والشعر والفن.
في زمن تتغير فيه التحالفات والخرائط، يبقى الصوت الجميل أكثر ما يربطنا ببعضنا… وربما أكثر ما يعيدنا إلى أنفسنا.