على رغم كثرة ما يدلي به من تصريحات فإن اللبنانيين بدأوا يأخذون كلام الموفد الأميركي توم برّاك على محمل الجدّ، خصوصًا أن كلامه الأخير والعالي السقف يتزامن مع تنامي الحديث في الأوساط الديبلوماسية عن احتمال إعفائه من مهماه كموفد أميركي رئاسي إلى المنطقة، مع إعادة صورة مورغان اورتاغوس إلى واجهة الأحداث.
فما قاله برّاك مؤخرًا لم يحمل أي جديد، خصوصًا إذا ما أُخذ كلامه في السياق التصعيدي لمجمل مواقفه منذ اليوم الأول لتعيينه موفدًا رئاسيًا. إلاّ أن ما هو لافت في هذا الكلام التصعيدي هو التوقيت بحدّ ذاته. فقد تزامن مع انتهاج
إسرائيل اسلوبًا مغايرًا في نوعية اعتداءاتها اليومية. وهذا الأمر يدعو المسؤولين اللبنانيين إلى إعادة النظر في كل الطروحات الهادفة إلى "ترطيب" الأجواء الساخنة، خصوصًا أن ما قاله رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون عن استعداد
لبنان للتفاوض مع إسرائيل، وقد أُعطي تفسيرات خارج السياق المقصود منه، قد أحبطته إسرائيل بالنار والبارود من خلال إصرارها على عدم التجاوب مع أي مسعى خارجي لإيجاد تسوية مقبولة بالنسبة الوضع اللبناني. وهذا الإصرار من الجانب
الإسرائيلي يعني أمرًا واحدًا، وهو أن تل أبيب التي تعتبر أنها حقّقت من خلال اتفاق شرم الشيخ ما أرادت تحقيقه منذ اليوم الأول، الذي تلا عملية "طوفان الأقصى"، تسعى إلى تكرار السيناريو ذاته في لبنان، وذلك عبر عملية تقليم أظافر حركة "حماس" في قطاع غزة، وسعيها إلى الأمر ذاته مع "
حزب الله" في لبنان. وهذا ما حاول الإيحاء به برّاك، الذي أبلغ المسؤولين اللبنانيين رفض تل أبيب للشروط، التي وضعها لبنان كلازمة لا بدّ منها لأي مفاوضات غير مباشرة في
المستقبل.
فهل في امكان اللبنانيين أن يقرأوا ما بين السطور ليكتشفوا بأن كلام برّاك، وهو كلام مصرّح له به، هو مقدمة لموجة جديدة من التصعيد الإسرائيلي على لبنان عمومًا، وعلى بيئة "حزب الله" خصوصًا. وهذا الكلام يعني في شكل مباشر أن
الولايات المتحدة الأميركية غير راضية على الأداء اللبناني بالنسبة إلى موضوع "حصرية السلاح". وقد وصل إلى مسامع المسؤولين اللبنانيين من أكثر من زائر للعاصمة الأميركية بأن الإدارة الرئاسية في
واشنطن لن تقبل بأن يبقى الوضع
اللبناني على ما هو عليه حاليًا.
وفي اعتقاد كثيرين أن واشنطن ترى أن أي خطوة في اتجاه تبريد الوضع في قطاع غزة تبقى ناقصة ما لم تتزامن مع خطوات مماثلة في لبنان. وقد أتى كلام برّاك "المفخخ" ليصب في خانة ممارسة الضغط على لبنان لكي يسرّع خطاه بالنسبة إلى تنفيذ القرارات المتعلقة بخطة الجيش جنوب نهر الليطاني كمرحلة أولى، وذلك في محاولة لدفع اللبنانيين إلى شراء ما تبقّى من وقت، وأن تضييع الفرصة السانحة هذه المرّة قد تعرّضهم لمواجهة ما لا قدرة كافية لهم على تحمّل نتائج ما يمكن أن يحصل في المستقبل القريب.
الجواب اللبناني التلقائي والفوري على ما بلغهم من
الأميركيين، مباشرة أو بالواسطة، وعلى كلام برّاك، هو أن على الإدارة الأميركية ممارسة أقصى ما يمكنها من ضغط على إسرائيل لكي توقف اعتداءاتها المتواصلة على لبنان كخطوة أولى، على أن تليها خطوات مماثلة ولاحقة في الاتجاهين.
إلاّ أن إصرار تل أبيب على رفض ما يقترحه لبنان كشروط الحدّ الأدنى لكي يقبل بالسير بمفاوضات غير مباشرة، وبرعاية أميركية، قد دفع بالرئيس بري إلى نعي أي إمكانية للتفاوض على غرار ما حصل في اتفاق ترسيم الحدود البرّية وفي اتفاق وقف إطلاق النار، وكان له فيهما اليد الطولى في دفع الأمور نحو خواتيمها المحقّقة.
فبعد سقوط خيار إمكانية التفاوض لم يبق أمام لبنان سوى التعويل على ما تقوم به لجنة "الميكانيزم"، في انتظار بلورة أفكار جديدة قد يكون في مقدمها التوصل إلى اقناع الأميركيين مع وصول سفيرهم الجديد إلى
بيروت ومع العودة المرتقبة لمورغان اورتاغوس بضرورة العودة إلى اتفاق الهدنة كإطار لا يزال صالحًا لتبريد الساحة الجنوبية. إلاّ أن هذا المسعى، بحسب التقديرات الديبلوماسية، لن يبصر النور ما لم تضغط واشنطن على تل أبيب مقابل تعهد لبناني بتسريع الخطى في موضوع "حصرية السلاح".
إلاّ أن اتساع رقعة الاعتداءات
الإسرائيلية على أكثر من منطقة لبنانية، والاستباحة المستدامة للأجواء
اللبنانية من قبل المسيرات، يدفع اللبنانيين إلى الشكّ في إمكانية نجاح أي مسعى من شأنه أن يلجم الغطرسة الإسرائيلية، ولكن من دون أن يفقدوا الأمل في إمكانية تحقيق بعض الخروقات الإيجابية في المسعى القائم على الحفاظ على الحدّ الأدنى من الهدوء النسبي.