الحديث عن احتمال الحرب في لبنان أخذ في الآونة الأخيرة حجمًا كبيرًا، وكأن البلاد على شفير مواجهة وشيكة. لكنّ التمعّن في الواقعين الإقليمي والداخلي يُظهر أن الحرب، رغم الضجيج والتهويل، تبقى احتمالًا ضعيفًا. فكل المعطيات تدل على أن التصعيد القائم يُستخدم كورقة ضغط سياسية أكثر مما هو مقدمة فعلية لمعارك ميدانية. هناك من يريد أن يرفع منسوب الخوف كي يحصل على مكاسب تفاوضية، أو ليُحسّن موقعه في أي تسوية مقبلة، لا أكثر.
اللافت أن جميع الأطراف الفاعلة، سواء في الداخل اللبناني أو في المنطقة، تعرف أن الحرب اليوم لا تُشبه الحروب السابقة. فلبنان في وضع اقتصادي هش، والبنية التحتية شبه منهارة، وأي اشتباك واسع سيؤدي إلى انهيار ما تبقّى من الدولة. كذلك فإن القوى الإقليمية الكبرى ليست في وارد إشعال جبهة جديدة، خصوصًا بعد التجارب المريرة التي خاضتها خلال السنوات الأخيرة. الجميع يعلم أن أي مواجهة مفتوحة على الساحة
اللبنانية ستجرّ المنطقة إلى فوضى يصعب ضبطها، وهذا ما لا تريده لا
واشنطن ولا
طهران ولا
تل أبيب.
السبب الثاني الذي يجعل الحرب مستبعدة هو توازن الردع القائم. فكل طرف يدرك تمامًا كلفة المغامرة.
إسرائيل تدرك أن أي توسّع ميداني في لبنان سيؤدي إلى ردّ قاسٍ، وقد يفتح
الجبهة الشمالية على مصير مجهول. وفي المقابل، فان القوى اللبنانية المتحالفة مع محور
المقاومة تدرك أن الدخول في مواجهة شاملة في هذه الظروف قد يعزل لبنان دوليًا ويؤدي إلى خسائر بشرية واقتصادية فادحة. هذا التوازن الدقيق يجعل خيار الحرب مكلفًا إلى درجة تجعله آخر الاحتمالات، لا أولها.
أما داخليًا، فالحرب لا تخدم أحدًا. لا القوى السياسية التي تبحث عن مواقعها في الانتخابات المقبلة، ولا الشارع اللبناني الذي يعيش أزمة معيشية خانقة، ولا المؤسسات المنهكة التي بالكاد تؤمن الحد الأدنى من الخدمات. أي مواجهة الآن ستقضي على ما تبقّى من الأمل بإنقاذ اقتصادي أو بإعادة الثقة الدولية بالبلاد.
ثمّة أيضًا جانب سياسي لا يقلّ أهمية: كل الرسائل التي تُرسل من الخارج إلى لبنان، سواء عبر الدبلوماسيين أو الوسطاء، تصبّ في خانة “تجنّب الانفجار”.
المجتمع الدولي يريد إبقاء الوضع تحت السيطرة، لأن أي فوضى في لبنان ستنعكس مباشرة على أمن المتوسط وأوروبا، وعلى مصالح دول كبرى لا تريد فتح جبهة جديدة في لحظة انشغالها بملفات أكثر تعقيدًا مثل
أوكرانيا أو الخليج.
بناءً على كل ذلك، يمكن القول إن الحرب اليوم تُستخدم كلغة تهويل وضغط، لكنها ليست خيارًا مرجحا. فالكل يُلوّح بها، لكن لا أحد يريدها فعلًا. ومن الواضح أن من يرفع نبرة التهديد يسعى إلى تحسين شروطه السياسية أو الحصول على مكاسب في ملفات أخرى. ولذلك، فإن التوتر سيبقى في حدود التصعيد الكلامي وربما بعض المناوشات المحدودة، لكنه لن يتحوّل إلى حرب شاملة. فالمصالح الإقليمية والدولية والداخلية تتقاطع جميعها عند نقطة واحدة: منع الانفجار، لا إشعاله.