تشير التطورات الإسرائيلية في الساعات الأخيرة، سواء عبر التصريحات العلنية أو عبر التسريبات التي تخرج من دوائر القرار الأمني، إلى تغيّر ملموس في طبيعة الخطاب الموجّه نحو لبنان. فبعد أسابيع طويلة من التلويح بحرب شاملة وسريعة، عاد الكلام الإسرائيلي لينتقل من فكرة “الذهاب إلى مواجهة واسعة” إلى الحديث عن “ضربة محددة ومكثفة” تستهدف مواقع حزب الله تحديدًا، ضمن إطار محدد ومضبوط. هذا التحول لا يمرّ بلا دلالات، إذ يعكس تراجعًا موضعيًا في اندفاعة التهديد الأولى، ويعكس أيضًا محاولة جديدة لإعادة صياغة الضغوط على الدولة اللبنانية بطرق مختلفة وأكثر قابلية للتنفيذ.
المتابعون للشأن الإسرائيلي يؤكدون أن طبيعة الخطاب الجديد ليست مجرّد صدفة ظرفية، بل جزء من عملية قياس ورد فعل معقدة تجري في الداخل الإسرائيلي منذ أسابيع. فالمؤسسة العسكرية تدرك أن إطلاق حرب واسعة يحمل أكلافًا هائلة، ليس فقط على
الجبهة الشمالية، بل على الداخل الإسرائيلي نفسه، وهو ما يجعل خيار الضربة المحدودة أو المكثفة أكثر واقعية من خيار الحرب الشاملة. ومع ذلك، فإن هذه الضربة – وفق التقديرات – ستكون كبيرة بما يكفي لإيصال رسالة مفادها أن
إسرائيل لا تتراجع عن تهديداتها، ولا تقبل أن تُفسَّر مواقفها كإشارات ضعف.
هذا الخطاب الجديد يحمل أيضًا بعدًا سياسيًا واضحًا. فإسرائيل ترسل إشارات بأنه إذا لم تبادر الدولة
اللبنانية إلى اتخاذ خطوات تُظهر قدرة فعلية على ضبط السلاح وسحبه والضغط على الحزب، فإن
تل أبيب ستتجه إلى تنفيذ هذه “الضربة النوعية” من دون انتظار ضوء أخضر دولي. وفي المنطق الإسرائيلي، أي تراجع عن التصعيد الآن من دون مقابل سيُعتبر “كسراً للهيبة” وسيفقد التهديدات قيمتها، وبالتالي ستصبح الضغوط التي تمارسها على لبنان بلا معنى أو تأثير.
في المقابل، يرى بعض الدبلوماسيين المتابعين للملف أن المرحلة المقبلة قد تحمل تقلبات أكبر، خاصة بعد زيارة البابا إلى لبنان نهاية الشهر الجاري.
ولا يستبعد بعض العارفين بالملف أن تشهد المرحلة المقبلة ارتفاعًا في وتيرة الاغتيالات أو العمليات النوعية، سواء في مناطق حدودية أو في نقاط حساسة أخرى، كجزء من سياسة “ضغط مدروس” يسبق أي تفاوض جدي. كما يُخشى أن تتوسع رقعة الاستهدافات لتطال مناطق جديدة، بما في ذلك الضاحية الجنوبية، ولكن من دون أن يصل الأمر إلى حد الذهاب نحو حرب واسعة تنقلب على الجميع.
بذلك، تبدو الصورة مقبلة على مرحلة حساسة: تهديدات تتراجع في الشكل لكنّها لم تنته، وتوازنات تُختبر يوميًا في الجنوب، فيما يبقى احتمال الانفجار الكبير حاضرًا، وإن كان مؤجّلًا حتى إشعار آخر.