نشرت الصفحة الرئيسية للبرنامج العربي لاذاعة الفاتيكان قبل قليل مقالاً بعنوان: "على خطى البابوات" استعداداً لزيارة الحبر الأعظم الى لبنان الأحد.
وهنا نص المقال:
على خطى البابوات في لبنان، "بلد رسالة" من أجل السلام
إن الزيارة إلى لبنان هي زيارة على مسار السلام. يتوجه البابا لاوُن الرابع عشر إلى لبنان بعد زيارته لتركيا، من ٣٠ تشرين الثاني نوفمبر وحتى ٢ كانون الأول ٢٠٢٥. وهو بذلك يحقق رغبة سلفه البابا فرنسيس الذي كان يود زيارة "بلد الأرز". إن الهدف من الزيارة الرسولية الأولى للبابا لاوُن إلى هذه الأرض، هو أن يحمل الرجاء إلى منطقة تطبعها النزاعات، ويعزز الحوار بين الأديان. في زمن مطبوع بالعنف والصراعات، يمكن للأديان أن تضطلع بمهمة مشتركة: تعزيز السلام وحماية الخليقة. وإحدى اللحظات المحورية في زيارة البابا إلى لبنان هي الصلاة الصامتة، في ٢ كانون الأول ديسمبر، في موقع انفجار مرفأ بيروت الذي أودى بحياة أكثر من ٢٠٠ شخص في عام ٢٠٢٠.
كان البابا بولس السادس أول حبر أعظم تطأ قدماه أرض لبنان في ٢ كانون الأول ديسمبر ١٩٦٤. لم تكن زيارة رسولية بحد ذاتها، بل توقف قصير سبق الحج إلى الهند بمناسبة المؤتمر الإفخارستي في بومباي. عندما هبطت طائرة البابا على مدرج مطار بيروت، دوّت أجراس جميع كنائس المدينة، وانضمت إليها، كما ذكرت صحيفة "الأوسيرفاتوري رومانو"، كنائس الروم الأرثوذكس. وتُظهر صور الأرشيف حشوداً غفيرة من اللبنانيين حول المطار، ومجموعات من الناس على الشرفات والنوافذ يسعون لرؤية الحبر الأعظم ولو لوهلة.
رغم أن الشهر كان بداية كانون الأول ديسمبر، استُقبل البابا مونتيني بشمس ساطعة وحرارة ربيعية. وفي مراسم الاستقبال، وقف البابا بولس السادس ورئيس الجمهورية اللبنانية آنذاك، شارل حلو، على منصة للاستماع إلى النشيد البابوي ثم النشيد اللبناني. تخللت كلمات البابا، التي ألقاها بالفرنسية، هتافات الحشود المتكررة. وقد أكد البابا بولس السادس أن: "لبنان يحتل مكانته بجدارة بين الأمم". كما أوضح سبب توقفه القصير في لبنان قبل السفر إلى الهند: "سمحت لنا العناية الإلهية بقبول دعوة لم نتمكن من تلبيتها خلال زيارتنا إلى الأراضي المقدسة، وقد جددت لنا السلطات اللبنانية هذه الدعوة بلطف مرة أخرى. إنهالبهجة لنا أن تتاح لنا هذه الفرصة للتواصل المباشر مع بلد عزيز علينا بشكل خاص".
وقبل استئناف رحلته إلى آسيا، شكر البابا بولس السادس السلطات اللبنانية على حفاوة الاستقبال وألقى كلمات مقتضبة: "إن حفاوة استقبالكم تهزنا بعمق وستترك في قلوبنا ذكرى رائعة لوطنكم العزيز. لجميع من رحبوا بنا، مسيحيين وغير مسيحيين، أتمنى أن يبقى لبنان دائماً أمينًا لرسالته الحضارية ولإيمانه".
لم يزر البابا يوحنا بولس الأول لبنان، لكنه كان يرغب في القيام بزيارة رسولية إلى هذا البلد. كشف عن ذلك بطريرك أنطاكيا للموارنة، الكاردينال أنطوان خريش، في مقابلة مع إذاعة الفاتيكان بعد يومين من وفاة الحبر الأعظم في ٢٨أيلول سبتمبر ١٩٧٨. وجاء في نشرة الأخبار الإذاعية لتلك الليلة: أكد البطريرك خريش، في تصريح أدرج أيضاً في "السيرة الذاتية المستندة إلى الوثائق" للبابا لوتشياني، أن البابا "كان يفكر في القيام بزيارة خاصة إلى لبنان للعمل شخصياً على إعادة السلام بين أبناء تلك الأمة". وأضاف: "لقد وعدنا أيضاً بلطف باستقبالنا مرة ثانية، قبل عودتنا إلى لبنان، في لقاء خاص كنا سنتناول فيه موضوع تلك الزيارة". وقد ورد ذكر "بلد الأرز" عدة مرات خلال فترة بابوية يوحنا بولس الأول القصيرة. في رسالته "إلى مدينة روما والعالم بتاريخ ٢٧ آبأغسطس ١٩٧٨، قال: "نفكر بشكل خاص في أرض لبنان المعذبة". بلد كان يمر في تلك الفترة التاريخية بحرب أهلية.
تزامنت السنوات الأولى من حبرية البابا يوحنا بولس الثاني مع صفحة مأساوية في التاريخ اللبناني: الصراع الأهلي الذي استمر ١٥ عاماً (من ١٩٧٥ حتى ١٩٩٠) وأودى بحياة أكثر من ١٥٠ ألف شخص. زار البابا فويتيلا، الذي اعتلى السدة البطرسيّة عام ١٩٧٨، لبنان في عام ١٩٩٧، وهي فترة تميزت بحالة من عدم الاستقرار المستمر. كانت المناسبة هي التوقيع على الإرشاد الرسولي ما بعد السينودس واختتام السينودس الخاص بلبنان. في هذه الأرض التي اهتزت بسبب الجروح النازفة، حث الحبر الأعظم البولندي على بناء الجسور. وأنّه يمكن للبنان أن يكون نموذجاً للدول والأمم الأخرى. خلال حبريته، وصف يوحنا بولس الثاني الدولة اللبنانية بأنها "بلد رسالة". وكتب في رسالته الرسولية إلى جميع أساقفة الكنيسة الكاثوليكية حول وضع هذه الأرض: "لبنان هو أكثر من مجرد بلد: إنه رسالة حرية ومثال للتعددية للشرق كما للغرب". هذا التعبير لا يزال يستخدمه اللبنانيون غالباً للتأكيد على المهمة الخاصة لأمتهم: فسيفساء ومثال للعيش المشترك بين مختلف الطوائف الدينية التي تشكله.
إحدى اللحظات المركزية في الزيارة الرسولية للبابا فويتيلا، التي امتدت بين ١٠ و١١ أيار مايو ١٩٩٧، كانت لقاءه بالشباب في بازيليك سيدة لبنان. هناك ألقى كلمات موجهة إلى الأجيال اللبنانية الجديدة التي "تتعطش للسلام والأخوَّة". "الأمر متروك لكم لإسقاط الجدران التي ربما تكون قد أقيمت خلال الفترات المؤلمة من تاريخ أمتكم؛ لا تقيموا جدراناً جديدة في بلدكم! بل على العكس، إنَّ مهمتكم هي بناء الجسور بين الأفراد، وبين العائلات، وبين الطوائف المختلفة. أتمنى لكم أن تقوموا، في الحياة اليومية، بأعمال مصالحة، للانتقال من عدم الثقة إلى الثقة! ومهمتكم أيضاً هي ضمان أن يتمكن كل لبناني، ولا سيما كل شاب، من المشاركة في الحياة الاجتماعية، في البيت المشترك. وهكذا ستولد أخوة جديدة وستُنسج روابط متينة، لأن السلاح الرئيسي والحاسم لبناء لبنان هو سلاح المحبة".
أما اللقطة الختامية للزيارة الرسولية للبابا يوحنا بولس الثاني إلى لبنان فكانت في مراسم الوداع في مطار بيروت. قال الحبر الأعظم: "لقد لمست المحبة العميقة التي يكنها كاثوليك لبنان وجميع مواطنيه لوطنهم، وكذلك تمسكهم بثقافته وتقاليده. لقد ظلوا أوفياء لأرضهم وتراثهم في العديد من الظروف، ولا يزالون يُظهرون نفس الأمانة اليوم أيضًا". إيمان وأمانة يجتازان التاريخ ويستقبلان أيضاً خليفة البابا فويتيلا.
لقد اتسمت الزيارة الرسولية للبابا بندكتس السادس عشر إلى لبنان بالروح الأخوية والحوار، وقد تمّت من ١٤ وحتى ١٦أيلول سبتمبر ٢٠١٢ بمناسبة توقيع الإرشاد الرسولي ما بعد السينودس "الكنيسة في الشرق الأوسط". لم ينسَ الحبر الأعظم، في مراسم الاستقبال، "الأحداث الحزينة والمؤلمة" التي عانت منها البلاد لسنوات طويلة. كما ذكّر بالنموذج اللبناني، "بلد رسالة" وقال: "يجب على التعايش اللبناني السعيد أن يُظهر للشرق الأوسط بأكمله وبقية العالم أنه يمكن أن يوجد داخل أمة واحدة تعاون بين مختلف الكنائس، التي هي جميعاً جزء من الكنيسة الكاثوليكية الواحدة، بروح من الشراكة الأخوية مع المسيحيين الآخرين، وفي الوقت عينه، التعايش والحوار القائم على الاحترام بين المسيحيين وإخوتهم من الديانات الأخرى".
وفي زيارته إلى بازيليك القديس بولس في حريصا، شجع البابا بندكتس السادس عشر أيضاً على "التعايش السعيد بين الإسلام والمسيحية، وهما ديانتان أسهمتا في خلق حضارات عظيمة".
وفي اللقاء مع الشباب في الساحة أمام البطريركية المارونية في بكركي، ترددت أصداء الكلمات التي قالها البابايوحنا بولس الثاني في لبنان عام ١٩٩٧. "يا شباب لبنان، أنتم رجاء بلدكم ومستقبله. أنتم لبنان، أرض الاستقبال والعيش المشترك، بهذه القدرة غير المسبوقة على التكيف. وفي هذه اللحظة، لا يمكننا أن ننسى ملايين الأشخاص الذين يشكلون الانتشار اللبناني ويحافظون على روابط متينة مع بلدهم الأصلي. يا شباب لبنان، كونوا مضيافين ومُنفتحين، كما يطلب منكم المسيح وكما يعلمكم بلدكم." كانت اللحظة الختامية للزيارة الرسولية للبابا بندكتس السادس عشر إلى لبنان هي مراسم الوداع، حيث أعرب الحبر الأعظم الألماني بشكل خاص عن أمنية: "ليستمر لبنان في أن يكون مفسحة يعيش فيها الرجال والنساء في وئام وسلام مع بعضهم البعض".
ينتظر لبنان الآن البابا لاوُن الرابع عشر الذي يتوجه إلى هذا البلد بـ "عيون" البابا فرنسيس. إنها أرض لم يزرها البابا الأرجنتيني كحبر أعظم، لكن "بلد الأرز" كان دائماً يحتل مكانة خاصة في قلبه وتعاليمه. في عام ٢٠١٣، في أول جمعة آلام في حبريته، كُتبت نصوص تأملات درب الصليب في الكولوسيوم على يد شبان وشابات لبنانيين. وقد صلّينا في تلك الأمسية: "اجعل، يا رب، دماء الضحايا الأبرياء بذرة لشرق جديد أكثر أخوة وسلاماً وعدلاً". إنَّ لبنان، في نهاية المطاف، هو مثل الأرز، شجرة مهيبة يمكن أن يصل ارتفاعها إلى ٤٠ متراً. تتميز بتاجها الممتد. يبدو أنها تريد أن تعانق وتستقبل، مثل الشعب اللبناني، كل إنسان بدون حسابات أو تمييز. إنَّ لبنان، هو مثل هذه الشجرة، يريد أن يبقى رسالة سلام.