كتب نبيل بو منصف في " النهار": من دون تقليل الأهمية التاريخية والدينية والإستراتيجية التي اكتسبتها أولى رحلات البابا الخارجية إلى تركيا، لا ترانا مغالين أو متباهين بإفراط إن ودعنا الأيام الثلاثة التي أمضاها البابا لاوون الرابع عشر في
لبنان باعتداد استثنائي بالأثر اللبناني الخالص الذي أظهره الضيف الاستثنائي الذي أتى إلينا من تاريخه المديد في العمل الرسولي.
كان وجه البابا في لبنان غيره في تركيا وغيره حتى في الفاتيكان. في قسمات وجهه ما قاله أكثر حتى من عظاته وخطبه وكلماته، خصوصا عبر المحطات الجوالة في أقدس أقداس المسيحيين عند ضريح القديس شربل، وفي المشهدية الخلابة مع شبيبة لبنان في بكركي، كما في مهابة اللقاء بين المسيحيين والمسلمين تحت ظلال تمثال الشهداء وفي فيء شجرة الزيتون، بلوغاً مكان تجسيد ملحمة الضحايا الشهداء في مرفأ
بيروت ومن بعدها أمام الحشد الضخم في ساحة بيروت العصية على الموت في القداس الوداعي الكبير.
كأننا بوجه لاوون الرابع عشر في ربوع البلد، اختصر في قسماته الباسمة كل قصة لبنان والمسيحيين مع حقبات زمن الخمسين عاماً منذ اندلاع عصر الحروب والاحتلالات والوصايات والأزمات المتعاقبة على لبنان. والحال أن من تخوف من توقيت زيارة البابا لاوون الحديث العهد على رأس كنيسة القديس بطرس للبنان، وسط هدير التهديدات بحرب جديدة تمعن
إسرائيل في الترويع بها وبأنها واقعة في أي لحظة بعد إقلاع الطائرة التي تقلّ البابا إلى الفاتيكان، لعله الآن عرف الأهمية القصوى لدلالات إصرار البابا على الحضور بين اللبنانيين في عزّ تصاعد المخاوف. كانت الزيارة رافعة لثقة اللبنانيين بقدرتهم على النهوض والصمود والانفتاح، فما يدفع البابا إلى لبنان في ذروة أخطار حرب متجددة، يعني الرفض القاطع للحرب أولاً وتحفيز لبنان على القيام بكل شيء لحماية نفسه وشبابه من الحرب أولاً وأخيراً.
رغم الهوة الضخمة التي تفصل بين فئة لبنانية لا تزال تشكل مسبّباً خطيراً لاستدراج العدوانية الحربية على لبنان وأكثرية لبنانية ترفض بقاء السلاح خارج الدولة، قد يكون "محبباً" أن نرى أثر البابا ماثلاً في توجه المرجعية الدينية للشيعة الشيخ علي الخطيب إليه بالقول "نضع قضية لبنان بين أيديكم".
وكتبت روزانا بو منصف في" النهار": لا يختصر "
حزب الله" لبنان ولا مشهده السياسي، زيارة البابا لاوون الرابع عشر أعادت التذكير بقوة بهذا الواقع. فلبنان المتعدد بطوائفه ودياناته وإرثه الثقافي، يعلو على سردية الحرب العسكرية المسيطرة مجددا بقوة.
وقد سارع اللبنانيون إلى التمسك بالبابا، خشبة خلاص لهم في ظل بحر الوعيد من هنا وهناك، بما ينتظرهم بعد زيارته في ظل خوف متزايد من ألا يستطيع لبنان بمسؤوليه وكنيسته الاستفادة من زخم الزيارة وأبعادها، تماما كما حصل في تجارب سابقة.
في ظل التحذيرات الأميركية لإسرائيل من تخريب الوضع السوري، والمرفقة بدعوة الرئيس الأميركي
دونالد ترامب رئيس الحكومة
الإسرائيلية إلى زيارة واشنطن مجددا، أو تخريب اتفاق وقف النار، كما في ظل إصرار
إيران على أولوية سلاح "حزب الله" على "الخبز والماء" في لبنان وفق ما "أفتى" المرشد الإيراني علي خامنئي، تتصاعد الخشية من حتمية بقاء لبنان متنفسا وحيدا للصدام أو لتصفية الحسابات ودفع الأثمان الباهظة بسبب سلاح الحزب، ما لم تقرأ
إيران التطورات الدولية وتطوراتها الداخلية على نحو أكثر حكمة، ولا ترتكب ما ارتكبه النظام السوري السابق في لبنان لجهة إخفاقه في قراءة التحولات
اللبنانية الداخلية والتحولات الدولية في 2004.
زيارة البابا أتت في ظل بدء العد العكسي للمهلة الأميركية للدولة اللبنانية، لكي تثبت إرادتها وقدرتها على نزع سلاح الحزب شمال نهر الليطاني، وتثبت أنها ستنفذ المراحل اللاحقة من خطتها لنزع السلاح في غضون 60 يوما، وفقا لمطالب
الولايات المتحدة التي تريد من الحكومة اللبنانية أن تتخذ "خطوات أساسية وفعالة" خلال هذه الفترة الزمنية، وهذا تحدّ في ذاته، حتى للفاتيكان نفسه في تحقيق اختراق لا ينهي مفاعيل الزيارة بعد أسابيع معدودة. العدّ العكسي لمهلة نهاية الشهر الحالي والذي تسعى زيارة البابا إلى ترجمته، يستدرج وساطات أخرى، ومع انتقال
مجلس الوزراء في جلسته غدا إلى البحث في المرحلة التالية من خطة الجيش حول حصرية السلاح، يرصد كثر موقف "الثنائي الشيعي"، بما يمكن أن يجنب لبنان مبدئيا مواجهة خيار انتهاء المهلة الأميركية نهاية السنة بتصعيد إسرائيلي يلوح في الأفق.
لا يمكن التفوق على هدية البابا التي لا تقدّر للبنان، بدعوته المجتمع الدولي إلى الاهتمام به واعتماد مقاربة مختلفة في المنطقة، إنما مع إصراره على وجوب استماع المسؤولين إلى الشعب الذي يطالب بالسلام والتحلي بالشجاعة للقيام بذلك.