مع اقتراب الاستحقاق الانتخابي النيابي وتمسّك القوى السياسية بإجرائه في موعده الدستوري، يدخل المشهد الداخلي مرحلة جديدة من التكهنات. فخارطة التحالفات لا تزال ضبابية، ومعظم المكوّنات يفضّل إبقاء أوراقه مطوية إلى ما بعد بداية شباط المقبل، ما يفتح الباب أمام قراءات متناقضة حول اتجاهات القوى الأساسية ومواقعها المرتقبة. هذا الضباب ينعكس يوميا في سلسلة من التحليلات المتداخلة، من سيناريوهات التحالفات إلى أسماء المرشحين المحتملين، في ظل قلق سياسي عام من استحقاق انتخابي لا تزال قواعده غير مكتملة.
وسط هذا المناخ المتوتر، جاء إعلان الرئيس
نجيب ميقاتي في 22 تشرين الثاني الماضي عدم الترشح للانتخابات النيابية وإشارته إلى أن موضوع دعم مرشحين أو لائحة قيد البحث، ليضيف عنصرا جديدا إلى المشهد، ويفرض قراءة لانتخابات
الشمال.
قرار
ميقاتي لم يكن خطوة مفاجئة أو ظرفية، بل محطة سياسية تحمل دلالات أبعد من مجرد إعلان شخصي. فموقفه يضع حد للتكهنات التي لحقت اسمه في الأسابيع الماضية، بين الحديث عن تشكيل لائحة انتخابية جديدة في
طرابلس والشمال، وتداول سيناريوهات تحالفات غير محسومة.
ما يظهر بوضوح أن الرئيس ميقاتي لا يتعامل مع الانتخابات كاستحقاق يحدد مستقبله السياسي. فمنذ خروجه من رئاسة الحكومة، حافظ على مقاربة تفصل بين الموقع الدستوري والعمل السياسي، ولم يبد حماسة للعودة إلى الندوة البرلمانية أو الانخراط في لعبة المقاعد. فهو يلعب دوراً فاعلاً من خارج السلطتين التنفيذية والتشريعية، بلا حاجة إلى موقع رسمي. فعدم الترشح لا يعني انسحابا من الحياة السياسية. على العكس، هو إعادة تموضع مدروسة. فميقاتي يؤمن بتداول السلطة، لكنه يدرك أن حضوره السياسي لا يتطلب صفة رسمية. وتشير المعطيات إلى أنه يتابع الملفات السياسية والاقتصادية والأمنية بدقة، ويختار توقيت مواقفه بعناية، مبتعدًا عن السجالات الداخلية التي يرى أنها تضر بالبلد وتصب في مصلحة من يوظفها خارجيًا.
لقد تزامن عدم رد الرئيس ميقاتي على الحملات والاتهامات بالسعي إلى تحالفات أو استجداء أصوات، مع رسالة واضحة: هو ليس في وارد خوض مباراة تسجيل نقاط، ولا الانجرار إلى الحملات السياسية والإعلامية. فالانتخابات لديه محطة تدار وفق توقيته السياسي، لا وفق رغبات الخصوم أو ضغوط الإعلام.
في موازاة ذلك، تبرز مواقف الرئيس ميقاتي الأخيرة بشأن الوضع في الجنوب، والتي لا يمكن اعتبارها تفصيلًا. فهو يواصل التأكيد على أن الأولوية اليوم هي تثبيت "اتفاق الهدنة" وإخراج
إسرائيل من النقاط المحتلة عبر مفاوضات وضمانات دولية واضحة. وهذه المقاربة تعكس قناعة لديه بأن مستقبل الأمن اللبناني لا يبنى بخطابات مرتفعة السقف، بل بمعادلات قانونية تحمي الحدود على المدى
الطويل. كما أن دعوته
المجتمع الدولي لوقف العدوان
الإسرائيلي، وتشديده على أن استقرار الجنوب شرط لاستقرار المنطقة، يضعان مواقفه في سياق يتجاوز الداخل، ويعيدانه إلى موقع اللاعب
القادر على إدارة الملفات الإقليمية الحساسة خصوصا أنه نجح خلال رئاسته للحكومة في التوصل إلى اتفاق لوقف الأعمال العدائية وتجنيب
لبنان الانزلاق نحو مواجهة أوسع.
ولا يمكن فصل رؤية الرئيس ميقاتي السياسية عن مقاربته لزيارة البابا التي غاب عن فعالياتها بداعي السفر، والتي قرأها كرسالة أمل بأن لبنان قادر على النهوض رغم المحنة. بالنسبة إليه، اللحظة الراهنة ليست مجرد أزمة سياسية عابرة، بل مفترق طرق يحتاج إلى خطاب تهدئة وعقلانية لا إلى معارك انتخابية مبكرة.
في المحصلة، فإن قرار الرئيس ميقاتي بشأن الترشح أو دعم شخصيات طرابلسية أو لائحة انتخابية من عدمه، يبقى قرارا شخصيا يحدده في الوقت الذي يراه مناسبا. لكنه حتى اللحظة يثبت خيار الدور الهادئ، العقلاني، البعيد عن الفوضى، من دون أن يفقد تأثيره في رسم ملامح انتخابات الشمال.