ليست المرّة الأولى التي يعلن فيها "
حزب الله" رفضه الدخول في مفاوضات جديدة مع
إسرائيل، طالما أنّها لم تلتزم اتفاق وقف إطلاق النار الذي وقّعت عليه قبل أكثر من عام، إذ يعتبر الحزب أنّ المطلوب في المقام الأول "إلزام" إسرائيل بتنفيذ الاتفاق، قبل البحث بأيّ ترتيبات جديدة لم ينصّ عليها الاتفاق، الذي كرّست إسرائيل لنفسها بموجبه ما سمّته "حرية الحركة" داخل الأراضي
اللبنانية لمواجهة أي "خطر محتمل" من وجهة نظرها.
ففي خطابه يوم الجمعة الماضي، أعلن
الأمين العام للحزب الشيخ نعيم
قاسم رفضه لأي تنازلات إضافية في مسار التفاوض، وذلك في إطار تحفّظه على توسيع الوفد اللبناني إلى اجتماعات لجنة مراقبة وقف الأعمال العدائية، بعد تعيين السفير السابق سيمون كرم رئيسًا له، في خطوة عُدّت الأولى نوعها منذ أكثر من 40 عامًا، وإن لم يكن لها ترجمة عملية سريعة على الأرض، حيث بقيت الخروقات
الإسرائيلية قائمة، مع أنّ
تل أبيب نوّهت بالخطوة اللبنانية.
ومع أنّ موقف "حزب الله" الرافض للتفاوض المستجدّ بقي "مضبوطًا" إلى حدّ بعيد، فلم يخرج عن حدود "التحفظ السياسي"، وبطبيعة الحال لم يرقَ إلى مستوى "الاعتراض العملي"، الذي كان يخشى البعض أن يعيد الحزب معه توضعه "خلف الدولة"، إن صحّ التعبير، لا "أمامها" كما دأب في المراحل السابقة، فإنه أثار تساؤلات بالجملة، فكيف يبرّر الحزب اعتراضه؟ وكيف يُقرأ هذا الاعتراض في الداخل اللبناني، في ظل كونه جزءًا من السلطة التنفيذية؟
"حزب الله": التنازلات تجرّ التنازلات
في سياق محاولة شرح وربما تبرير موقف "حزب الله"، ينطلق العارفون بأدبيّاته من مسلّمه يكررها في خطاباته السياسية، تقوم على التزامه الكامل باتفاق وقف إطلاق النار، نزولاً عند رغبة الدولة، ونصائح الدول الصديقة، في حين لم تلتزم إسرائيل ببنوده بتاتًا، ولو ليوم واحد. هنا، يقول هؤلاء إنّ الخروقات الإسرائيلية للاتفاق بدل أن تكون مصدر "إدانة" لإسرائيل، خصوصًا من الدول التي سمّيت "ضامنة" للاتفاق، تحوّلت إلى أداة ضغط على الحزب.
هذا المنطق عبّر عنه بوضوح الأمين العام لـ"حزب الله" الشيخ نعيم قاسم في خطابه الأخير يوم الجمعة، حين شدّد على أن أي تنازل يُطلب اليوم من
لبنان، فيما الطرف الآخر يتنصّل من التزاماته، لا يمكن اعتباره خطوة لبناء الثقة، بل تكريسًا لمنطق فرض الشروط بالقوة. وبحسب هذا التصور، فإن تقديم تنازل إضافي في ظل غياب الضمانات، كإدخال مدني إلى اللجنة، لا يشجّع على الاستقرار، بل يفتح الباب أمام المزيد من الضغوط.
من هذا المنطلق، يقرأ الحزب مسألة توسيع لجنة وقف إطلاق النار أو إدخال عنصر مدني إليها، كخطوة سياسية تحمل في طيّاتها محاولة نقل الملف من طابعه الأمني - العسكري إلى طاولة تفاوض أوسع، في لحظة يعتبرها الحزب لحظة اختلال في ميزان الالتزام. وهو يرى أن هذا المسار قد يتحوّل تدريجيًا إلى مدخل لفرض وقائع جديدة تتجاوز مجرد تثبيت وقف النار، في وقت يدرك الرئيس، وتدرك الحكومة، أنّ هذه الأمور تتطلّب نقاشًا جديًا لم يبدأ بعد.
مفارقة الشراكة في الحكومة
وعلى الرغم من أنّ رئيس الحكومة نواف سلام رفض "تضخيم" ما يُحكى عن المفاوضات، مشدّدًا على أنّ ما يجري محصور بالجانب الأمني، وليس "محدثات سلام"، وجّه "حزب الله" سهامه إلى الحكومة التي اتهما بالتقاعس. هنا يسجّل البعض مفارقة أساسية وجوهرية، قوامها أن الحزب، الذي يرفض تقديم تنازلات إضافية، هو نفسه شريك أساسي في الحكومة التي تقود هذا المسار، علمًا أنّ المحسوبين عليه يصوّرون وجوه في السلطة كأداة "ضبط من الداخل"، لا بوصفه تفويضًا مفتوحًا لمسار لا يوافق عليه.
في المقابل، يقرأ خصوم الحزب هذا السلوك بصورة مغايرة. بالنسبة إليهم، لا يمكن الجمع بين موقع الشريك في السلطة وموقع المعترض على قراراتها الجوهرية، وخصوصًا في ملفات بحجم التفاوض والسلاح، وقد وردت أساسا في البيان الوزاري للحكومة. وهم يرون أن الاستمرار في الحكومة مع رفع سقف الاعتراض السياسي، يضعف موقع الدولة التفاوضي، ويُظهرها وكأنها غير قادرة على توحيد قرارها في واحدة من أدق المراحل التي يمر بها لبنان.
وبين هاتين المقاربتين، تبدو الحكومة عالقة في مساحة ضيقة: فهي مطالَبة بإظهار قدرتها على إدارة ملف بالغ الحساسية كملفّ السلاح تحت ضغط الخارج، الذي بات يُلزمها بمهل ويملي عليها ما تفعل، وفي الوقت نفسه مطالَبة بالحفاظ على توازن داخلي هشّ يمنع انفجارًا سياسيًا أكبر، وهو واقع يجعل كل خطوة في مسار التفاوض عرضة لتجاذبات داخلية حادة، ويحوّل أي تعديل تقني أو سياسي إلى مادة اشتباك داخلي مباشر.
في المحصلة، لا يمكن فصل موقف "حزب الله" من مسار التفاوض عن قراءته للمخططات الإسرائيلية في المنطقة، ولا عن هواجسه من أن يتحوّل أي تنازل غير محسوب إلى مدخل لفرض شروط إضافية. وفي المقابل، لا يمكن تجاهل أن هذا الموقف يضع الحكومة أمام تحدٍّ دائم في توحيد قرارها السيادي. بين منطق الحذر الذي يطرحه الحزب، ومنطق التسريع الذي تدفع نحوه أطراف أخرى، يبقى لبنان في مرحلة إدارة مخاطر مفتوحة، لا سلام واضح المعالم فيها، ولا مواجهة عسكرية شاملة حتى الآن.