ليس كلّ نسيانٍ "كسلاً" أو "قلة تركيز". حين يتكرر يومياً تضييع الكلمات، تفويت المواعيد، نسيان ما قيل قبل دقائق، تصير الذاكرة نفسها مقياساً للضغط الذي يعيشه الجسد والعقل. وفي لبنان، حيث يتراكم الحرمان الاقتصادي فوق صدمات الحروب والقلق المزمن، باتت الشكوى من "ضعف الذاكرة" عند الشباب أقرب إلى عرضٍ جماعي لأزمة طويلة، لا إلى حالة فردية عابرة.
دراسة لبنانية حديثة على 504 طالباً جامعياً حاولت قياس الأمر بأداة واضحة: EMQ-R (استبيان هفوات الذاكرة اليومية). النتيجة المتوسطة وصلت إلى 19.63 من 52، لكن الأهم أنّ المشكلة ظهرت في تفاصيل "الحياة العادية"، إذ نحو 15.9% قالوا إنهم يواجهون يومياً صعوبة في "التأكد أنهم أنجزوا المهمات"، و15.5% أفادوا يومياً بصعوبة في إيجاد الكلمات المناسبة أثناء الحديث. هذه ليست أرقاماً عن "نسيان اسم"، بل عن تعطّلٍ مستمر في آليات الانتباه والاسترجاع.
وعندما صنّفت الدراسة النتائج وفق العتبات المعتمدة لديها، ظهرت نسب مرتفعة من صعوبات الاسترجاع والانتباه، ما يعزز فكرة أن الموضوع لا يقتصر على إرهاق امتحانات أو ضغط عابر، بل يرتبط ببيئة صادمة ومستنزِفة.
هنا تتقاطع الذاكرة مع الصحة النفسية مباشرة. تقارير وطنية ودولية عن لبنان تتحدث عن ارتفاع واضح في الاكتئاب والقلق واضطراب ما بعد الصدمة بين الشباب. وفي أحد تقارير
اليونيسف، قرابة واحد من كل أربعة ضمن الفئة العمرية 15–24 قال إنه يشعر بالاكتئاب غالباً، مع نسب مرتفعة جداً لمن يصرّحون بالقلق المتكرر، فيما يبقى طلب العلاج منخفضاً بشكل لافت.
ثم تأتي "حلقة الدواء". ليست المشكلة فقط في الحاجة إلى علاج، بل في القدرة على الوصول إليه. وثائق رسمية للصحة النفسية في لبنان تشير إلى قفزات كبيرة في أسعار الأدوية خلال سنوات الأزمة، وإلى ارتفاعٍ حاد في العبء المالي لشراء الأدوية النفسية مقارنة بالدخل. ومع أزمة نقص الدواء، تتحوّل الاستمرارية العلاجية إلى رفاهية.
واللافت أن الاتجاه العالمي نفسه صار يلتقط الظاهرة بالأرقام. ففي
الولايات المتحدة مثلاً، بيانات 2013–2023 أظهرت ارتفاعاً في الإبلاغ عن "إعاقة إدراكية"، مع قفزة أكثر وضوحاً لدى الشباب (18–39). الفارق أنّ لبنان يجمع عوامل الضغط كلها دفعة واحدة: اقتصاد منهار، توتر دائم، صدمات متكررة، ونظام علاجي يواجه صعوبة في تلبية الطلب.
في المحصلة، "أزمة الذاكرة" عند الشباب اللبناني ليست تفصيلاً طبياً صغيراً. إنها كلفة إدراكية للانهيار. فهناك جيل تُستنزف طاقته في القلق والنجاة، فيضعف تركيزه، تتشوش ذاكرته، ويتقلص هامش التخطيط للمستقبل، وكأن البلد لا يبتلع المدخرات فقط، بل يستهلك أيضاً قدرة عقول شبابه على التذكّر والبناء.