يعقد
مجلس الوزراء اليوم وغداً جلستين لمناقشة مشروع «قانون الانتظام المالي واسترداد الودائع»، تمهيداً لإقراره وإحالته إلى مجلس النواب. مضمون المشروع لم يكن مُرضِياً لأيّ من الأطراف المرتبطة به، ولا سيما لأصحاب المصارف والمودعين وصندوق النقد الدولي أيضاً.
وقالت مصادر وزارية لـ«الشرق الأوسط» إن الحكومة، تبدأ الاثنين مناقشة الخطة، تمهيداً لإقرار مشروع قانون باسم «الانتظام المالي واسترداد الودائع»، ثم تحيله إلى البرلمان لدراسته وإقراره، وسط توقعات بأن يتعرض القانون في مجلس النواب لتعديلات كبيرة، على ضوء الاعتراضات عليه.
وقالت مصادر مالية
إن مسودة القانون «أغضبت المصارف»، كما «أثارت رفض المودعين»، مضيفة أن «صندوق النقد الدولي» سجّل ملاحظات سريعة، ما يعني أن القانون «لن يمر كما هو في البرلمان، رغم توقعات بأنه سيمر في الحكومة الاثنين أو الثلاثاء على أبعد تقدير».
وبدأت أول ملامح الاعتراضات على القانون برسالة وجهها رئيس لجنة الاقتصاد البرلمانية النائب فريد البستاتي إلى رئيس الحكومة نواف سلّام، ووزير المالية ياسين جابر، ووزير الاقتصاد عامر البساط، أعلن فيها معارضته المسودة، وأنه سوف يسعى لـ«منع إقرارها حتى تعدّل وتُصبح عادلة ومنصفة لجميع المودعين».
وقال: «اقتراح القانون الذي تعدّه الحكومة، الذي أعلنت عن تفاصيله، مجحف بحق المودعين وبحق الاقتصاد وبحق
لبنان؛ لأنه لا يُعيد الثقة، ولا يُطلق عجلة الاقتصاد. هذا القانون لن يمرّ، وسوف نقاومه ونحاربه»، مضيفاً: «نعلن اليوم عن افتتاح لائحة الشرف للنواب الذين سيعارضونه».
وافيد بأن المصارف تلوح بالإضراب وإقفال أبوابها في حال أصرّت الحكومة في مشروعها المقدّم على تحميل المصارف وحدها التكلفة، ما يعني حكماً عدم القدرة على تسديد أموال المودعين وإفلاس معظم المصارف معها.
من جهتها، أعلنت جمعية «صرخة المودعين» عن تحرّك احتجاجي واسع تحت عنوان «الاثنين يوم غضب للمودعين»، داعيةً إلى مشاركة كثيفة في الاعتصام المقرّر يوم الاثنين على مدخل القصر
الجمهوري في
بعبدا، بالتزامن مع انعقاد جلسة مجلس الوزراء التي ستبحث المشروع تمهيداً لإقراره.
وكتبت" الاخبار": صحيح أن المشروع راعى ملاحظات صندوق النقد بشأن تراتبية الخسائر، لكنه أهمل ملاحظات أخرى وترك الكثير من البنود مُعرّضة للاستنسابية لأنها ستصدر بموجب مراسيم تنفيذية أو بواسطة تعاميم
مصرف لبنان، كما أن المودعين رأوا فيه شطباً غير مبرّر لنسبة كبيرة من ودائعهم، ما دفع بعض جمعيات المودعين إلى التصعيد والتحرّك في الشارع، فيما أطلقت جمعية المصارف حرباً مضادّة عليه من أجل فرض تعديلات، أبرزها ما يتعلق بتصفية الرساميل، وقرّرت أن تعقد اجتماعاً طارئاً مساء أمس لاتخاذ قرار بشأن التصعيد ضدّ القانون بحضور مستشارها المالي «أنكورا» الذي أعدّ لها تقديراً لمفاعيل تطبيق الصيغة المُعدّة لمشروع القانون.
بدا كأنّ مُعدِّي مشروع قانون الانتظام المالي واسترداد الودائع، يبحثون عن تسوية ما، بين تحميل أصحاب المصارف مسؤولية كبيرة تجاه الأزمة، وقدرة الدولة المتدنّية على تحمّل مسؤولية تجاه أصحاب الودائع.
فقد أُدرجت هذه «التسوية» في مضامين القانون على شكل إهمال أو شطب كل ما يمكن أن يؤدّي إلى محاسبة مساهمي المصارف وإداراتها بسبب ممارستهم لسوء الائتمان والتفريط في الودائع، في مقابل تجرّع كأس تصفية الرساميل وقبول الأمر الواقع بإعادة الرسملة كضرورة لإحياء هذه المؤسّسات مجدّداً.
والواقع، أن المصارف اعتبرت أنْ لا مجال لطرح تسوية كهذه على الطاولة لأنها لا ترى نفسها مسؤولة أصلاً، ولأنها تتحمّل بموجب هذا المشروع جزءاً أساسياً من المسؤولية والخسائر. فقد دأب أعضاء جمعية المصارف على إطلاق تصاريح مفادها أن «الأزمة نظامية» وأن الدولة (مصرف لبنان ووزارة المال) أخذت الأموال وسرقها السياسيون، وأن المصارف كانت مُجبرة على القبول بذلك، لأنه أمر مفروض عليها من قوى السلطة السياسية.
وعلى هذا الأساس قرّرت الجمعية أن تعقد مساء أمس اجتماعاً بحضور مستشارها المالي «أنكورا» لمناقشة المشروع ومفاعيله على المصارف ورسم خطّة للتعامل معه في مجلس الوزراء وعند إحالته إلى مجلس النواب من خلال صياغة بيانات موجّهة بشكل أساسي إلى المودعين الذين ستُشطب ودائعهم.
المشكلة أن السردية التي روّجت لها المصارف ظلّت قائمة من دون أي تفكيك. والتعريفات الغربية لمفهوم «أزمة نظامية» تتفق على أنها أزمة تنتقل على شكل عدوى من جهاز إلى آخر أو أن العدوى تصيب أجهزة متنوّعة ومترابطة داخل الدولة.
وهذا لا يعني أبداً أن منشأ الأزمة هو الدولة، وأن الأزمة انتقلت بالعدوى إلى مصرف لبنان ثم المصارف لتصيب المودعين، بل بالعكس، فإن هذا المفهوم ببُعده السياسي، يفيد بما لا يرقى إليه شكّ، بأن كل من هو جزء من النظام ستصيبه العدوى أو الخسارة، وأن المصارف التي تمثّل ركناً أساسياً من نظام قام على استقطاب التدفّقات من الخارج واستعملها لتمويل استهلاك مستورد، ما أدّى إلى تبديدها وإلى نهبها ضمن قنوات التوزيع بين الدولة والمصارف، فرّطت في أموال المودعين لتغطية عجز نظام هي جزء منه ينتفع منها وتنتفع منه.
هكذا بدا أن امتناع السلطة عن التعامل مع هذه السردية، كان هدفه إيجاد مساحات مشتركة مع المصارف. من أبرز المساحات المشتركة بينهما أن لا أحداً يريد الدخول إلى السجن بأي تهمة، ولا سيما أن تجربة اتّهام واعتقال الحاكم السابق رياض سلامة بتهم فساد وهدر مال عام ماثلة أمام الجميع.
لكنّ المصارف تعاملت مع التسوية التي يطرحها مشروع القانون، والتي روّج لها حاكم مصرف لبنان كريم سعيد، بأنها تحصيل حاصل، إذ ترى أن هناك حاجة إلى إحياء القطاع المصرفي، مردّها إلى أن
الأميركيين يطلبون ذلك في سياق مكافحة اقتصاد الكاش وتجفيف مصادر تمويل
حزب الله، وأن الاقتصاد في لبنان لا يمكن أن يتحرّك بلا المصارف، وبالتالي لا يمكن زجّ أصحاب المصارف في السجون أو في محاكمات جزائية على شبهات ارتكاب تتعلّق بتبديد أموال المودعين.
ولأسباب مختلفة، وقف
صندوق النقد الدولي مدافعاً عن المفاهيم التي يكرّسها في معالجة الأزمات وأبرزها مبدأ تراتبية توزيع الخسائر لتبدأ الرساميل بالتآكل أولاً، وإن كان الصندوق يمثّل بُعداً سياسياً بغرض تشديد الحصار المالي على لبنان ربطاً بملف «نزع السلاح».
على هذا الأساس، قرّرت المصارف أن تتصرّف. وهي قبل إنجاز مسوّدة مشروع القانون، ألمحت أمام مسؤولي وزارة المال إلى أن شطب رساميلها أولاً وفق مبدأ الصندوق، سيدفعها نحو التصعيد وربما تنفيذ إضراب. لكنّ المصارف نفسها منقسمة على أكثر من ذلك.
فمن جهة يرى بعض أصحاب المصارف أنه يمكن التعامل مع مشروع القانون باعتباره بداية للتفاوض، ولا سيما أن المشروع لن يصبح نافذاً عند إقراره في مجلس الوزراء ويمكن إدخال تعديلات عليه في اللجان النيابية، أو حتى عبر مشاريع قوانين مُلحقة، فضلاً عن أن المشروع يحمّل مصرف لبنان 60% من تسديد ودائع بقيمة تصل إلى 20 مليار دولار، ويفرض على الدولة تغطية أي خسائر إضافية في رأسمال مصرف لبنان، ويحمّل مصرف لبنان 80% من أصول الشهادات المدعومة بأصول أبرزها الذهب، والتي سيصدرها مقابل 40 مليار دولار من الودائع.
ومن جهة ثانية، يعتقد مصرفيون آخرون أن الفرصة سانحة للانقضاض على المشروع في مهده «بلا وجع رأس لاحق» تحت عنوان أن «إحياء القطاع، وهو أمر ضروري لمراعاة ما يطلبه الأميركيون، لا يمكن أن يمرّ عبر منطق التصفية، ولا يمكن احتساب الـ10 مليارات دولار التي يملكها مصرف لبنان في حسابات السيولة بالعملة الأجنبية إلّا ضمن حصّة المصارف التي ستدفعها للمودعين فوق حصّتها في شطب الرساميل».
بيانات جمعية المصارف لن تعكس هذا الجو، بالعكس ستعمد إلى صياغة مبنية على المساحات المشتركة بين المصرفيين، وربما ستضغط من أجل فرض الحوار معها في الحكومة ومجلس النواب، لكنها لن تلجأ إلى التصعيد والإضراب. أصلاً المصارف لا تتحمّل كلفة الإضراب، لذا قرّرت أمس أن تبتعد عن الإضراب كوسيلة للتعامل مع مشروع قانون الانتظام المالي. فهي ما زالت جزءاً من النظام ويمكنها أن تمارس نفوذاً أكبر من داخله لا في الشارع حيث لا تملك أيّ شرعية.