بعد اربع سنوات على نشوب الحرب في سوريا، وتدفق اللاجئين الى لبنان بأعداد كبيرة ناهزت المليوني لاجئ من دون تنظيم او شروط، بحيث باتوا يشكلون عبئا كبيرا على لبنان واللبنانيين، وبعدما حالت التجاذبات السياسية دون الاتفاق على اقامة مخيمات تحصر أماكن وجودهم منذ البداية، وبعدما لامست الامور حد الخطر الاجتماعي والاقتصادي وحتى السياسي، فرضت السلطات اللبنانية العام الفائت سلسلة اجراءات حدودية على اللاجئين السوريين من أجل تخفيف تدفقهم، بحيث منعت كل لاجئ يذهب الى سوريا من العودة الى لبنان، فـ"انخفض التسجيل السنوي من 59 الفا شهريا عام 2013 الى 37 الفا شهريا، وانخفض عددهم بمعدل 44 في المئة عام 2014 مقارنة بالعام السابق"، على ما أعلنته ممثلة مفوضية اللاجئين نينيت كيللي.
ومع ذلك باشرت المديرية العامة للأمن العام منذ أوائل العام الجاري، اتخاذ اجراءات جديدة في حق الرعايا السوريين، ووضعت شروطا أقل ما يقال فيها انها صعبة ومذلة، جعلت الكثيرين منهم يعدلون عن المجيء الى لبنان، وطاول الضرر لبنان والسوريين على حد سواء.
تعليمات تنظيمية
في 30/12/2014 أصدرت بيانا ضمنته تعليمات بوشر العمل بها اعتبارا من 2015/1/5، وأعلنت عن "تنظيم جديد لدخول السوريين الى لبنان والاقامة فيه"، بهدف "ضبط دخول الرعايا السوريين واقامتهم، عبر آلية واضحة تقوم على معايير محددة"، على ما أكد لـ"النهار" رئيس مكتب شؤون الاعلام في الامن العام العميد نبيل حنون.
وبعد اكثر من شهرين على التجربة، تبين ان هذه التدابير انعكست سلبا على فئة السوريين غير اللاجئين من جهة، ولم تنفع كثيرا في تنظيم اقامة اللاجئين الموجودين اصلا. فهؤلاء بقوا بعد صدور التعميم في لبنان ولم يغادروه، لانهم أدركوا انهم اذا خرجوا فلن يعودوا، لانه "لم يعد مسموحا دخول اي سوري بصفة نازح، إلا في حالات استثنائية، تحدد اجراءاتها لاحقا بالتنسيق مع وزارة الخارجية" بحسب البيان. وبالتالي تطبق الاجراءات الجديدة على الحالات الآتية: السياحة، زيارة عمل، التسوق، مالك عقار، مستأجر العقار، الدراسة، الدخول او المغادرة عبر المطار او أحد الموانئ البحرية او الحدود البرية، العلاج الطبي، لمراجعة سفارة اجنبية، والدخول بموجب تعهد مسبق بالمسؤولية. وحدد البيان لكل فئة المستندات المطلوبة التي يمكن الاطلاع عليها عبر موقع الامن العام الالكتروني.
وفي رأي العميد حنون ان النتيجة أدت الى:
"أ - تسهيل دخول السوريين على المعابر الحدودية، خصوصا اولئك الذين لديهم سبب واضح ومحدد لدخول لبنان ويحملون المستندات اللازمة.
ب - ضبط الأوضاع الإدارية للرعايا السوريين عبر تحديد أماكن عملهم وإقامتهم، مما يسهّل عملية متابعتهم".
إلا أن التنظير شيء والواقع شيء آخر. وبما أننا في لبنان، فبديهي أن هذه الاجراءات تطبق "على المزاج"، وبطريقة مذلة أحياناً كثيرة، للسوريين واللبنانيين على حد سواء، والوقائع عديدة.
من قصصهم
- جورج كان لديه موعد مع السفارة الفرنسية، ويحمل معه الورقة التي تثبت موعده، لكن الضابط المسؤول في المصنع لم يسمح له وللعديد من أمثاله بالدخول، وطلب اليهم الوقوف جانباً لساعات بحجة الاتصال بالسفارة للتأكد، الأمر الذي لم يحصل بالطبع لأن مكتب شركة المواعيد والمقابلات لا يرد. فما كان من جورج الا اللجوء الى "الطريقة اللبنانية"، فاتصل بصديقه الضابط اللبناني في الأمن العام الذي سهل أمره. لكن الموعد كان قد طار، فحصل على موعد آخر لليوم التالي بعدما شرح للشركة ما حصل معه. ولكي لا "يتبهدل" مرة ثانية، ويمر من دائرة الى دائرة، تحت المطر أو الشمس، وقّع على ورقة تجيز لقريبه اللبناني تسلم ورقة الفيزا عنه.
- رامي كان يأتي وعائلته الى لبنان بين فترة واخرى لقضاء بضعة أيام من الراحة عند اقربائه، واحياناً في فندق فخم، هرباً من القصف والحرب. اليوم صار يستصعب الأمر ولم يعد يأتي، لأن بات على أحد انسبائه اللبنانيين أن يكفله وعائلته (والكفالة يفترض أن تصلح مدة شهر، لكن على الحدود ويرتأونها لمدة 5 أيام فقط، ويرجعون السوري على أعقابه) ويوقع تعهداً لدى الكاتب العدل، ويقدم إفادة سكن من المختار، وكشف حساب من المصرف، وغيرها من المستندات، وبعضها غير مذكور في البيان. وعلى الكفيل اللبناني أن يقف أياماً في الصف على أبواب الأمن العام للمصادقة على هذه الأوراق، ثم إرسالها الى الأمن العام على الحدود، والحصول على رقم يرسله الى قريبه السوري ليدخل بموجبه لبنان، ناهيك برسوم تلك الأوراق، وإبراز مبلغ 1000 دولار عن كل شخص، ومستندات ملكية وعقود إيجار وبطاقات سفر غير قابلة للاسترداد وغيرها، كل هذا على الحدود. وبعد دخوله الأراضي اللبنانية، على السوري التوجه هو وكفيله اللبناني الى أحد مراكز الأمن العام الاقليمي خلال 48 ساعة، والانتظار أيضاً لساعات وأيام للحصول على الاقامة الموقتة (وهذا لم نسمع به في اي بلد آخر) لا تتجاوز الستة أشهر في أفضل الاحوال، قابلة للتجديد مرة حتى لو كان يملك سند إيجار او مالك عقار، ودفع مبلغ 300 ألف ليرة عن كل شخص بحسب كل فئة... كل هذا الوقت والاوراق والتعب والاجراءات الادارية المعقدة من اجل زيارة قد لا تطول اكثر من اسبوع. فالافضل اذاً عدم المجيء!
- المعاملات نفسها تقريبا تنطبق على كريم وليلى اللذين كانا يأتيان يومين في الشهر، للاطمئنان الى ولديهما الطالبين في احدى الجامعات الخاصة، وترتيب شؤونهما، حاملين الطعام والمونة وما يحتاجانه. وصار عليهما تكبد كل هذه المشقة من اجل 48 ساعة في زيارة لبنان. هذا من دون ان نذكر التنقل من دائرة الى دائرة على الحدود، والوقوف في الصف الطويل على الحدود وفي مكاتب الامن العام الاقليمية، من دون اي تمييز بين الفئات.
كلّ هذه الاوراق والمعاملات، ويقولون انها ليست طلب "فيزا"! إنها أكثر وأصعب وأكثر إذلالاً بكثير، على قول المسافرين.
ومع ذلك يعتبر حنون ان "هذه الاجراءات لم تكن بهدف تقييد دخول السوريين الى لبنان، إنما لتنظيم هذه العملية وتسهيل اجراءاتها، بما يحفظ مصلحة الدولة اللبنانية وحق المواطن السوري بالدخول والعمل والاقامة في لبنان ومنع استغلاله وحمايته".
تعديل الاجراءات
بعيدا من التجاذبات والآراء والانقسامات السياسية، يعرف الجميع ويعترفون بأن علاقات قربى، او صداقة على الاقل، تربط بين ملايين السوريين واللبنانيين، بحيث لا تخلو عائلة تقريبا من وجود قريب لها في البلد الثاني، وحركة التنقل على الحدود بين البلدين لا تهدأ، ومن الضروري إعادة النظر في الاجراءات المتخذة، في ضوء المصاعب التي يعانيها السوريون غير اللاجئين، بما يكفل احترامهم، ومعاملتهم مثل سائر الرعايا العرب. مع الاشارة الى ان الامن العام "في عملية تقويم مستمرة، اذ صدر العديد من الملاحق التي عالجت اوضاعا استجدت بعد فترة من العمل بهذه الاجراءات".
قد يكون صحيحا القول إن دولا عدة تفرض شروطا صعبة على الراغبين في زيارتها، وصحيح ايضا انه يجب ايجاد حل لعبء اللاجئين السوريين الذي لم يعد يحتمله لبنان، لكن هذا الامر يجب الا يكون على حساب الروابط الاجتماعية الوثيقة التي تربط العائلات اللبنانية والسورية، ولا على حساب كرامات الناس وهدر اوقاتهم واموالهم، ولا بإذلال السوريين الذين يأتون الى لبنان بطريقة شرعية وينفقون أموالهم فيه، فيصبحون ضحايا على مذبح اللاجئين الذين تخلى عنهم العالم.
(النهار- مي عبود أبي عقل)