قد تغيّر لحظة واحدة مسار حياة إنسان بالكامل، فتقوده إمّا إلى الانكسار أو إلى إعادة اكتشاف ذاته. كثيرون ينهارون أمام ثقل الألم، لكن قلة نادرة تنجح في تحويل الجرح إلى أداة للإنقاذ.
هذا بالضبط ما فعلته الأميركية لويس غيبسون، التي حوّلت نجاتها من اعتداء وحشي في شبابها إلى مسيرة جعلت منها "أكثر فنانة شرعية نجاحًا في العالم"، بعد أن ساعدت رسوماتها الشرطة في القبض على مئات المجرمين.
طفولة هادئة وصدمات مبكرة
ولدت غيبسون في ولاية
تكساس الأميركية أوائل خمسينيات القرن الماضي، وأظهرت منذ الصغر موهبة واضحة في الرسم. بعد حصولها على شهادة في الفنون الجميلة من جامعة تكساس في أوستن، كانت أحلامها تميل إلى الرقص والتمثيل في هوليوود، حيث عملت فترة قصيرة كعارضة وممثلة مبتدئة.
لكن حياتها انقلبت رأسًا على عقب في سن 21، حين تعرضت لاعتداء مروع من قاتل متسلسل اقتحم شقتها في لوس أنجلوس. وصفت التجربة لاحقًا بأنها "اغتصاب تعذيبي"، إذ كان المعتدي يخنقها حتى تفقد وعيها ثم يعيد
الكرة بمجرد استفاقتها، لتعيش لحظات متكررة من الرعب والموت الوشيك.
لم تبلغ الشرطة حينها خوفًا من الوصمة الاجتماعية، لكن التجربة تركت في نفسها قرارًا لا رجعة فيه: أن تُكرس حياتها لمواجهة المجرمين ومساعدة الضحايا عبر فنها.
بعد عودتها إلى تكساس، بدأت ترسم وجوه السياح في الأماكن العامة. تدريجيًا، طورت مهارة فائقة في التقاط الملامح بدقة وسرعة. ومن هنا، ولدت فكرتها: لماذا لا تستخدم موهبتها لمساعدة العدالة؟
تقدمت للعمل كرسامة شرعية لدى شرطة هيوستن، لكنها واجهت الرفض مرارًا، إلى أن قبلت رسميًا عام 1989 بعد سبع
سنوات من الإصرار. ما ميّزها لم يكن فقط براعتها الفنية، بل قدرتها الاستثنائية على التواصل مع الضحايا. فقد كانت تدرك، بحكم تجربتها، أن الصدمة تمحو تفاصيل الذاكرة، لذا اعتمدت جلسات مطولة للاستماع للضحايا، تستحضر خلالها تعابير المجرم ونظراته، قبل أن تركّب الملامح تدريجيًا بمساعدة أرشيف ضخم من صور العيون والأنوف والفم.
نجاح عالمي وأرقام قياسية
منذ أول رسم قاد إلى توقيف قاتل في الثمانينيات، توالت نجاحاتها. فقد ساعدت أكثر من 1,300 ضحية على التعرف إلى مهاجميهم، وأسهمت في إلقاء القبض على مجرمين خطيرين من قتلة ومغتصبين وسارقين.
هذا النجاح غير المسبوق جعل موسوعة غينيس تسجل اسمها كأكثر رسامة شرعية نجاحًا في العالم بنسبة نجاح بلغت 30%، وهي نسبة مرتفعة جدًا مقارنة بالمعدل العالمي.
كما أصدرت كتبًا مرجعية مثل "وجوه الشر" و"فن الرسم الشرعي وأساسياته"، والتي أصبحت مراجع معتمدة لتدريب الفنانين الشرعيين عالميًا، بالإضافة إلى إنتاج أفلام وثائقية مستوحاة من مسيرتها.
الفن كعلاج نفسي
تؤكد غيبسون أن عملها لم يكن مجرد مهنة، بل كان علاجًا شخصيًا ساعدها على مواجهة جراح الماضي. تقول: "كل وجه مجرم كنت أرسمه كان خطوة إضافية للتغلب على ذكريات الاعتداء الذي كاد أن يغير حياتي للأسوأ".
وتضيف أن الأجمل من ذلك هو أنها منحت الضحايا بدورهم فرصة للشفاء، بعدما شعروا أن رسوماتها ساعدتهم على تحقيق العدالة وكسر دائرة الخوف.