ما حدث في
واشنطن لم يكن مجرد إطلاق نار في شارع
دبلوماسي، بل مؤشر على تحوّل عميق في طبيعة الاشتباك السياسي داخل
الولايات المتحدة الاميركية. إلياس
رودريغز، شاب أميركي من شيكاغو، أطلق النار على موظفَين في
السفارة الإسرائيلية، فأرداهما قتيلين خارج متحف العاصمة اليهودي، ثم تمّ توقيفه وهو يردد عبارة "
فلسطين حرة".
المشهد، في ظاهره، بدا كحادث أمني موضعي، لكن التوقيت والمكان وطبيعة المُستهدفين، سرعان ما أخرج الحادثة من إطارها الجنائي إلى مساحة توظيف أوسع. فمنذ الساعات الأولى، تحوّل الحدث إلى مادة إعلامية جاهزة، وبدأ يُستثمر ضمن خطاب سياسي يرمي إلى ربطه بالحراك الطلابي المتصاعد تضامناً مع فلسطين.
ورغم أن التحقيقات لم تُظهر حتى الآن أي ارتباط تنظيمي بين رودريغز والحركات الطلابية المناصرة لغزة، بدأت تتشكّل تدريجياً سردية إعلامية وسياسية تحاول تحميل هذا الحراك جزءاً من المسؤولية المعنوية أو التحريضية التي أفضت إلى الحادثة.
وبحسب مصدر سياسي مطّلع على اتجاهات التعامل مع الحادثة داخل دوائر القرار الأميركي، فإن ما يجري يُقرأ كمحاولة لاحتواء الموجة الطلابية التي خرجت عن السيطرة في عدد من الجامعات الأميركية الكبرى. ويضيف أن "الربط غير المباشر بين الحدث والعمل الطلابي ليس اعتباطياً، بل يُدار بشكل مدروس لخلق مناخ يُبرّر اتخاذ إجراءات احترازية ضد النشاط السياسي داخل
الحرم الجامعي".
في هذا السياق، بدأت بعض الجهات المقرّبة من مراكز الضغط المؤيدة لإسرائيل، وبدعم من منصات إعلامية مؤثرة، في تسويق سردية تعتبر أن المناخ الطلابي بات بيئة خصبة لـ "التحريض والتطرّف"، وبأن هناك حاجة ملحّة لفرض قواعد جديدة تحدّ من حرية التعبير بحجة الأمن.
ولعلّه واضحاً أن توقيت الحادثة يخدم هذه المقاربة؛ فالحراك الطلابي المعارض للعدوان على غزة وصل في الأسابيع الأخيرة إلى ذروته من حيث الانتشار والرمزية، مئات الاعتصامات والبيانات، وتحركات شملت طيفاً واسعاً من الجامعات. وبحسب المصدر نفسه، "تَحوّل هذا الحراك إلى عنصر إزعاج فعلي ليس فقط للمنظومة السياسية الأميركية، بل أيضاً لشبكات النفوذ التي تدير ملف العلاقة مع
إسرائيل من الداخل".
ومن هنا أصبح من المرجّح أن تُستخدم الحادثة كذريعة لإعادة تعريف مفاهيم مثل "التحريض" و" الحماس العدائي" بشكل يسمح بملاحقة أي نشاط تعبيري يُعارض السياسات الأميركية في
الشرق الأوسط. وفي هذا السياق يضيف المصدر: "هناك عمل حثيث لتكييف المناخ القانوني داخل الجامعات، بما يسمح بإدخال الرقابة تحت مسمّى الإجراءات الوقائية".
من هذا المنظور، فإن الحملة ضد الحراك الطلابي لا تُقرأ كردّ فعل على حادثة معزولة، بل كمحاولة لإعادة تأطير القضية
الفلسطينية داخل سردية أمنية مغلقة. والهدف، وفقاً للمصدر، هو "فصلها عن كونها مسألة سياسية - حقوقية قابلة للنقاش، وتحويلها إلى مادة اشتباه، يُراقَب أصحابها ويُصار الى عزلهم بالقانون بحجة منع التطرّف".
في الخلاصة، الاختبار اليوم ليس لموقف طارئ من واقعة واحدة، بل لبنية الحرية السياسية داخل الولايات المتحدة الاميركية نفسها. فهل تبقى الجامعات فضاءً للنقاش الحر، أم تُدار كساحة أمنية بمفاهيم مدنية؟ ولعلّ القضية لم تعد مرتبطة بمن أطلق النار، بل بمن قرّر أن يكتب رواية ما بعد الرصاصة.