في تطور لافت ضمن مسار المفاوضات غير المباشرة بشأن وقف إطلاق النار في غزة، أعلنت الولايات المتحدة الاميركية انسحاب فريقها من محادثات الدوحة، مبرّرة ذلك بما اعتبرته دليلاً على عدم وجود رغبة حقيقية لدى "حماس" بالتوصّل إلى اتفاق. غير أن مصادر مطلعة ترى في هذه الخطوة مناورة سياسية، تهدف إلى إعادة توجيه المسار التفاوضي بما يتناسب مع السقف الإسرائيلي، خاصة بعد أن طرحت المقاومة، وللمرة الأولى، مطلب الإفراج عن مقاتلين من قوات النخبة الذين شاركوا في عملية "طوفان الأقصى"، ما اعتُبر، بحسب المصادر، تحولاً نوعياً في شروط اللعبة.
وفي حين تحاول
واشنطن إضفاء طابع أخلاقي على انسحابها، تأتي تصريحاتها في سياق تنسيق وثيق مع تل أبيب يهدف إلى خنق المسار التفاوضي من خلال تشديد الضغط الإعلامي والسياسي على "حماس"، بالتوازي مع استمرار الحصار الميداني. في هذا السياق، تزامنت التصريحات الأميركية مع لهجة تصعيدية لرئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو الذي عاد إلى التلويح بخيارات مفتوحة لإعادة الأسرى، رغم إدراك المؤسستين الأمنية والعسكرية داخل الكيان أن تلك الخيارات قد استُنفدت من دون نتائج تُذكر.
واعتبرت المصادر أن هذا التصعيد الكلامي ليس سوى محاولة مكشوفة لتعويض الفشل الميداني المتراكم، بعدما تحوّلت عملية "عربات جدعون"، التي جرى الترويج لها على أنها نقطة حسم استراتيجي، إلى نموذج لإخفاقات متتالية أقرّ بها ضباط بارزون في الجيش الإسرائيلي. إذ لم تعد الأزمة محصورة في بعدها العسكري أو التفاوضي، بل تحوّلت إلى مأزق بنيوي داخل المنظومة
الإسرائيلية، تجلّى في تآكل السردية الرسمية وفقدان القدرة على التحكم بالرأي العام، سواء محلياً أو دولياً.
بالتوازي، بدأت تتكشف ملامح تراجع تكتيكي في سياسة التجويع المعتمدة، إذ سُجّلت في الساعات الفائتة تسهيلات محدودة لإدخال مساعدات إنسانية، ما يعكس حجم الضغط الذي تواجهه تل أبيب حتى من داخل معسكراتها الغربية التقليدية. وتلفت المصادر إلى أن هذا التحوّل مرتبط بتبدّل المزاج الدولي الذي بدأ يتلمّس حدود التواطؤ مع حرب استنزاف طويلة تُمارَس على شعب أعزل، في حين تتآكل شرعية الخطاب الإسرائيلي حتى لدى من دأبوا على تبنّيه من دون شروط.
في السياق ذاته، تتخذ فرنسا خطوة بالغة الدلالة بإعلانها نية الاعتراف رسمياً بدولة فلسطين خلال
الدورة المقبلة للجمعية العامة للأمم المتحدة، وهو ما أثار ردود فعل غاضبة
في إسرائيل بلغت حدّ اتهام باريس بدعم الإرهاب. إلا أن مصادر دبلوماسية اعتبرت أن هذا الانفعال يخفي قلقاً عميقاً من اتساع رقعة الاعتراف الدولي بفلسطين، الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى إعادة تعريف الصراع على أسس تتجاوز المنظور الأمني الإسرائيلي الضيق.
هذا الاعتراف لا يأتي في سياق رمزي فحسب، بل يندرج ضمن لحظة إقليمية تتّسم بحراك دبلوماسي مكثّف، تلعب فيه المملكة العربية
السعودية دوراً محورياً في دعم الاعتراف بالدولة
الفلسطينية، في خطوة يُفهم منها، بحسب المصادر، أنها تهدف إلى تحسين الشروط السياسية قبل أي خطوة تطبيع رسمية مع
إسرائيل. حيث أنّ الموقف السعودي يربط بين الدور الإقليمي وبين تحقيق مكاسب للفلسطينيين، ما يفسّر سعي الرياض إلى تحريك مواقف الدول الأوروبية وتوسيع جبهة الدعم الدولي.
في المقابل، تبدو الولايات المتحدة الاميركية وكأنها تنسحب تدريجياً من دور الوسيط، إذ أعلنت رسمياً عدم نيتها المشاركة في اجتماع دولي مقرّر لمناقشة حل الدولتين، ما يعكس فتوراً سياسياً واضحاً، إن لم يكن انسحاباً مقصوداً من أي مقاربة تفاوضية متوازنة. وفي هذا المناخ، يرى مراقبون أن الموقف الأميركي بات أقرب إلى إدارة الصراع منه إلى تسويته، وهو ما يفاقم منسوب العجز الدبلوماسي ويترك فراغاً قد تستثمره قوى دولية أخرى في إعادة رسم خريطة التحالفات.
من جهة أخرى، يعكس اتساع الاعتراف الدولي بفلسطين تبدّلاً تدريجياً في ميزان القوة الناعمة داخل المؤسسات الدولية، حيث باتت إسرائيل تواجه عزلة دبلوماسية متنامية، يقابلها انكشاف في أدوات الضغط التي اعتمدتها طيلة المرحلة الماضية، بدءاً من الحرب الميدانية وصولاً إلى سياسة التجويع. ويشير هذا التحوّل إلى أن الرأي العام الدولي، حتى في دول الغرب التقليدي، لم يعد يتجاوب بالوتيرة السابقة مع الخطاب الإسرائيلي، خاصة بعد تسارع التقارير الحقوقية وتزايد التغطيات الصحفية التي توصّف ما يجري في غزة كجرائم جماعية ممنهجة.
في ضوء ذلك، لا تقتصر الأزمة الحالية على المقاومة في غزة، بل تمتد لتطال إسرائيل نفسها، التي باتت عالقة بين مأزق عسكري لا أفق له وانكشاف سياسي متصاعد. كما أن العجز الأميركي عن فرض معادلة تفاوضية فاعلة يزيد من حالة الانكفاء ويمنح بعض الدول العربية، وفي طليعتها السعودية، فرصة للعب دور دبلوماسي أكثر تأثيراً، بشرط أن تتمّ ترجمة هذا الدور إلى خطوات ملموسة تتجاوز الاعتبارات التكتيكية.
في موازاة ذلك، تتسرب مؤشرات من داخل واشنطن تُظهر تململاً واضحاً من سياسات الرئيس
دونالد ترامب، الذي يواجه ضغوطاً متزايدة على خلفية ملف إبستين وتراجع الثقة المؤسساتية في أدائه الخارجي. ما يدفع بعض الأوساط إلى الربط بين هذه الفوضى السياسية وتراجع المبادرة الأميركية في الملف الفلسطيني، خصوصاً مع تصاعد القناعة بأن واشنطن باتت عاجزة عن لعب دور الوسيط، وتركّز بدلًا من ذلك على تأمين الغطاء السياسي الكامل لإسرائيل، بصرف النظر عن الكلفة الإنسانية أو السياسية.
وبناءً على ما تقدّم، فإن ما يجري لا يمكن اختزاله بجمود تفاوضي ظرفي، بل يبدو أقرب إلى صراع وجودي على مستقبل المنطقة وهويتها وحدود القرار فيها. إذ إنّ استسلام المقاومة لا يعني فقط إنهاء معركتها في غزة، بل يفتح الباب أمام مشروع تصفية القضية الفلسطينية وتكريس نظام إقليمي جديد خاضع بالكامل لمنظومة الهيمنة الأميركية - الإسرائيلية، وهو ما تتقاطع مصادر دبلوماسية متعددة على التحذير منه، سواء على المدى القريب أو في سياق أوسع تتبدّل فيه قواعد اللعبة الجيوسياسية في
الشرق الأوسط.