وفي عظته، دعا البابا المؤمنين إلى التأمل في سر
الحكمة الإلهية التي أنارت مسيرة القديسين الجديدين، مشددًا على أن حياتهما البسيطة واليومية – المليئة بالمحبّة والإفخارستيا وخدمة الفقراء – تحولت إلى شهادة مضيئة تدعو شباب اليوم إلى رفع أنظارهم "نحو العُلى".
قال البابا لاوون الرابع عشر في القراءة الأولى سمعنا هذا السؤال: "وَمَنْ عَلِمَ مَشورَتَك، يا رب لو لم تُؤتِ الحِكمَة، وَتَبْعَثْ روحَك القُدُّوسَ مِنَ الأَعالي". وقد سمعناه بعد أن أُعلن قديسان شابان طوباويان، بييرجورجيو فرسّاتي وكارلو أكوتيس، وهذا من تدبير العناية الإلهية. هذا السؤال في الواقع في سفر الحكمة يُنسب بالتحديد إلى شاب مثلهما: الملك سليمان. الذي أدرك، بعد وفاة أبيه داود، أنّه يملك الكثير: السلطة، الغنى، الصحّة، الشباب، الجمال، والملك. لكن هذه الوفرة الكبيرة من الخيرات جعلت قلبه يتساءل: "ماذا أفعل لكي لا يضيع شيء؟". وفهم أنّ السبيل الوحيد لإيجاد الجواب هو أن يطلب من الله عطية أعظم: حكمته، لكي يعرف مقاصده ويلتزم بها بأمانة. لقد أدرك في الواقع أنّه بهذه الطريقة فقط يجد كلّ شيء مكانه في مخطّط الربّ العظيم. نعم، لأنّ أكبر خطر في الحياة هو أن نبدّدها بعيدًا عن مشروع الله.
تابع الأب الأقدس يقول كذلك يسوع في الإنجيل يكلّمنا عن مشروع ينبغي الالتزام به حتى النهاية. ويقول: "وَمَن لَم يَحمِل صَليبَهُ وَيَتبَعني، لا يَستَطيعُ أَن يكونَ لي تِلميذًا"، ويضيف: "وَهَكَذا كُلُّ واحِدٍ مِنكُم لا يَتَخَلّى عَن جَميعِ أَموالِهِ لا يَستَطيعُ أَن يَكونَ لي تِلميذًا". وبالتالي هو يدعونا لأن ننطلق بلا تردّد في المغامرة التي يقترحها علينا، بالذكاء والقوّة اللذين يأتيان من روحه، واللذين يمكننا أن نقبلهما بقدر ما نتجرّد من ذواتنا ومن الأشياء والأفكار التي نتعلّق بها، لكي نضع أنفسنا في الإصغاء لكلمته.
أضاف الحبر الأعظم يقول شباب كثيرون عبر القرون قد واجهوا مفترق الطرق هذا في حياتهم! لنفكّر في القديس فرنسيس الأسيزي: مثل سليمان، كان هو أيضًا شابًا غنيًا، متعطّشًا للمجد والشهرة. لذلك انطلق إلى الحرب طامعًا في أن يُتوّج "فارسًا" ويغمره الشرف. لكنّ يسوع ظهر له في الطريق وجعله يتأمّل فيما كان يفعله. ولما عاد إلى نفسه، وجّه إلى الله سؤالًا بسيطًا: "يا ربّ، ماذا تريدني أن أفعل؟". ومنذ تلك اللحظة، عاد أدراجه وبدأ يكتب قصّة مختلفة: قصة القداسة العجيبة التي نعرفها جميعًا، إذ تجرّد من كلّ شيء لكي يتبع الربّ، وعاش في الفقر، مفضّلًا على ذهب وفضة وأقمشة أبيه الثمينة محبّة الإخوة، لا سيّما الأشدّ ضعفًا والصغار. وكم من قديسين وقديسات غيره يمكننا أن نذكرهم! نحن نصوّرهم أحيانًا كشخصيات عظيمة، وننسى أنّ كلّ شيء بدأ بالنسبة لهم عندما، كانوا لا يزالون في سنِّ الشباب، أجابوا "نعم" لله ووهبوا أنفسهم له بالكامل، بدون أن يحتفظوا بشيء لأنفسهم. في هذا السياق يروي القديس أوغسطينوس أنّه في "عُقدة حياته المعقّدة والمتشابكة"، كان هناك في العمق صوت يهمس في داخله: "أريدك أنت". وهكذا أعطاه الله اتّجاهًا جديدًا، دربًا جديدًا، منطقًا جديدًا، بحيث لم يُضِع شيئًا من حياته.
تابع الأب الأقدس يقول في هذا الإطار، ننظر اليوم إلى القديس بييرجورجيو فرسّاتي والقديس كارلو أكوتيس: شاب من مطلع القرن العشرين ومراهق من أيامنا، كليهما عاشقان ليسوع ومستعدان لأن يهبا كل شيء من أجله. لقد التقى بييرجورجيو بالربّ من خلال المدرسة والجماعات الكنسية – العمل الكاثوليكي، وجماعات القديس منصور، والاتحاد الجامعي الكاثوليكي
الإيطالي، والرهبانية الدومينيكانية الثالثة – وشهد له بفرحه في العيش وفي كونه مسيحيًا، في الصلاة، في الصداقة، وفي المحبّة. حتى إنّ أصدقاءه، لكثرة ما رأوه يتجوّل في شوارع تورينو بعربات مليئة بالمساعدات للفقراء، لقّبوه بـ "شركة فرسّاتي للنقل!". واليوم أيضًا، تمثل حياة بييرجورجيو نورًا لروحانية العلمانيين. فالإيمان بالنسبة له لم يكن تقوى فردية: بل، وإذ كانت تدفعه قوّة الإنجيل وانتمائه إلى الجمعيات الكنسية، التزم بسخاء في المجتمع، وقدَّم اسهامه في الحياة السياسية، وبذل ذاته بحماسة في خدمة الفقراء. أما كارلو،
من جهته فقد التقى بيسوع في عائلته، بفضل والديه أندريا وأنتونيا – الحاضرين هنا اليوم مع شقيقيه، فرنشيسكا وميكيلي – ثم في المدرسة أيضًا، وبشكل خاص في الأسرار التي عاشها في الجماعة الرعوية. فنما هكذا وهو يدمج بأسلوب طبيعي في أيامه كطفل وكمراهق: الصلاة، الرياضة، الدراسة، والمحبّة.
أضاف الحبر الأعظم يقول كلاهما، بييرجورجيو وكارلو، قد غذّيا حبّهما لله وللإخوة بوسائل بسيطة، في متناول الجميع: القداس اليومي، الصلاة، ولا سيما السجود للقربان المقدس. وكان كارلو يقول: "أمام الشمس يسمر الجلد. أما أمام الإفخارستيا فنصبح قديسين!"، وأيضًا: "الحزن هو النظر إلى الذات، والفرح هو النظر إلى الله. والارتداد ليس سوى تحويل النظر من الأسفل إلى العُلى، بحركة بسيطة للعينين". شيء جوهري آخر بالنسبة لهما أيضًا كان الاعتراف المتكرّر. كتب كارلو: "إنّ الشيء الوحيد الذي علينا أن نخافه حقًا هو الخطيئة"؛ وكان يتعجب لأنّ الناس – بحسب كلماته – "يهتمّون كثيرًا بجمال أجسادهم ولا يهتمّون بجمال نفوسهم". وكلاهما كان لديه أيضًا تعبّد عظيم للقديسين وللعذراء مريم، وكانا يمارسان المحبّة بسخاء.
تابع الأب الأقدس يقول وكان بييرجورجيو يقول: "أرى حول الفقراء والمرضى نورًا نحن لا نملكه". وكان يسمّي المحبّة "أساس ديانتنا"، وكما فعل كارلو، مارسها خصوصًا من خلال أعمال صغيرة وملموسة، وغالبًا خفيّة، عائشًا ما سمّاه البابا فرنسيس "قداسة الباب المجاور". وحتى حين أصابهما المرض وقطع حياتهما الفتية، لم يمنعهما ذلك من الاستمرار في المحبّة، وبذل الذات لله، في تمجيده وفي الصلاة من أجل ذواتهما ومن أجل الجميع. لقد قال بييرجورجيو يومًا: "إنّ يوم الموت سيكون أجمل يوم في حياتي"؛ وعلى آخر صورة التقطت له وهو يتسلّق جبلًا في وادي لانزو، ووجهه موجّه نحو القمة، كتب: "نحو العُلى". أما كارلو، الأصغر سنًا، فكان يحب أن يقول إنّ السماء تنتظرنا منذ الأزل، وإنّ محبة الغد هي أن نقدّم اليوم أفضل ما لدينا من ثمار.
وختم البابا لاوون الرابع عشر عظته بالقول "أيها الأعزاء، إنّ القديسين بييرجورجيو فرسّاتي وكارلو أكوتيس هما دعوة موجّهة إلينا جميعًا، ولا سيّما إلى الشباب، لكي لا نهدر الحياة، بل نوجّهها نحو العُلى ونجعل منها تحفة. هما يشجّعاننا بكلماتهما: "لست أنا، بل الله"، كما كان يقول كارلو. و"إذا كان الله محور كل عمل تقوم به، فسوف تصل حتى النهاية"، كما كان يقول بييرجورجيو. هذه هي الصيغة البسيطة، وإنما الرابحة، لقداستهما. وهي أيضًا الشهادة التي نحن مدعوّون لكي نتبعها، لكي نتذوّق الحياة حتى النهاية ونذهب للقاء الربّ في فرح السماء.