كتبت "العربية": لم تعد الطائرات المسيّرة (الدرونز) مجرد أدوات للاستطلاع أو التصوير، بل أصبحت اليوم الرمز الأبرز لمرحلة جديدة في تاريخ الحروب.
فبعد أشهر قليلة من اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية في شباط 2022، تحوّل ميدان القتال في شرق
أوروبا إلى ساحة حية لتجريب تكتيكات وأجهزة جديدة، وما يشبه "المختبر المفتوح" لتجريب أنواع جديدة من المسيرات واستخدامها في مهام قتالية متنوعة.
وما كان في السابق أداة ثانوية للاستخبارات، بات اليوم سلاحاً رئيسياً يمس الدفاع والهجوم والفضاء الاستراتيجي، حتى وصفها مراقبون بأنها "أول حرب كبرى لعصر الدرونز".
فقد بدأت فكرة الطائرات المسيرة في القرن العشرين كأدوات بدائية للاستطلاع أو أهداف تدريبية للمدفعية، ثم شهدت تطوراً ملحوظاً في حرب فيتنام، ولاحقاً في حرب الخليج عام 1991 عندما استخدمت
الولايات المتحدة مسيرات للاستطلاع في بيئات عالية المخاطر.
لكن التحول الحقيقي حدث مع بداية الألفية الجديدة، حيث استخدمت المسيرات في "الحرب على الإرهاب" لأغراض الاستطلاع والاغتيال الدقيق، مثل طائرات "بريداتور" و"ريبر" الأميركية.
غير أن ما نراه اليوم في
أوكرانيا يتجاوز كل ذلك، فالمسيرات لم تعد فقط "وسيلة مساندة"، بل تحولت إلى العمود الفقري للعمليات العسكرية.
وعقب بداية الغزو الروسي في شباط 2022، امتلأت سماء أوكرانيا بمختلف أنواع المسيرات، من التجارية الصغيرة التي تباع على الإنترنت، إلى النماذج العسكرية المتقدمة.
فمن جانب، تطلق أوكرانيا مئات المسيّرات يومياً في جبهات القتال، وفق تقارير مراكز الأبحاث، ومن بينها CNAS الأميركي، معتمدة في الأغلب على نماذج "بيرقدار FPV" التركية أو "TB2" الأوكرانية.
وبحسب الخبراء، فإن كييف تعتمد على المسيرات في ضرب الدبابات الروسية وقوافل الإمداد، كما طوّرت نماذج محلية منخفضة الكلفة للقيام بمهام هجومية وانتحارية.
وحتى خلال العمليات العسكرية، مثل "عملية شبكة العنكبوت" (Operation Spiderweb)، ظهر بوضوح كيف استخدمت أوكرانيا 117 دروناً لضرب قواعد جوية روسية داخل الأراضي الروسية، منطلقة من مواقع متخفّية داخل
روسيا، لاستهداف عشرات المواقع والطائرات الحربية، بحسب معهد Modern World Institute البحثي.
درون (آيستوك)
درون (آيستوك)
من الجهة الأخرى، استخدمت روسيا بدورها بكثافة مسيرات "شاهد-136"
الإيرانية الصنع لضرب البنية التحتية للطاقة الأوكرانية طوال أشهر الحرب، ما جعلها سلاحاً استراتيجياً لإضعاف قدرة كييف على الصمود في الشتاء.
وبين الطرفين، ظهرت لأول مرة "أسراب الدرونز"، التي تتمثل في عشرات الطائرات الصغيرة التي تُطلق دفعة واحدة لإرباك الدفاعات الجوية، في مشهد أقرب إلى "حروب
المستقبل" التي كانت تصور في الأفلام.
وكنتيجة مباشرة، جعلت هذه الحرب من أوكرانيا مسرحاً عملياً لتطوير التكتيكات، حيث يتم اختبار التكنولوجيا في ساحات المعارك يومياً، ثم يتم تعديلها وتصنيعها على نطاق أوسع بسرعة غير مسبوقة.
وبينما تشير تقارير إلى أن روسيا رفعت إنتاجها من المسيّرات عشر مرات خلال عام 2024، طوّرت أوكرانيا مصانع محلية وأطلقت مبادرات مع شركات ناشئة لتصميم نماذج جديدة أسبوعياً تقريباً.
لعل أهم ما كشفته الحرب هو عدم التوازن بين الكلفة والنتائج، فبينما تكلف الطائرة المسيّرة الانتحارية بضع مئات أو آلاف الدولارات، قد تُجبر الخصم على استخدام صواريخ دفاعية تصل قيمتها إلى ملايين الدولارات لاعتراضها.
هذا التباين جعل المسيرات أداة "غير متكافئة" تعيد حسابات القوى الكبرى، إذ لم يعد التفوق العسكري مرتبطاً فقط بحجم الأسطول الجوي أو قوة الدبابات، بل بالقدرة على إنتاج أسراب رخيصة وفعّالة من الطائرات المسيّرة.
كما كشف الانتشار الواسع للمسيرات أيضاً ثغرات خطيرة في أنظمة الدفاع الجوي التقليدية. فالصواريخ المصممة لاعتراض الطائرات أو الصواريخ الباليستية غالباً ما تكون بطيئة أو باهظة الثمن في مواجهة أسراب صغيرة ومنخفضة التحليق.
وهذا ما دفع دولاً عديدة إلى الاستثمار في تطوير أنظمة خاصة مضادة للمسيرات، مثل أسلحة الليزر لتعطيلها، أو أنظمة التشويش الإلكتروني لقطع الاتصال بها، أو حتى طائرات مسيّرة مضادة تطلق لاعتراض مسيرات الخصم.
واليوم، لم تعد أوكرانيا وحدها من تتابع "ثورة الدرونز"، بل العالم كله يراقب. من مراكز القرار في العواصم الكبرى إلى مصانع السلاح في بكين وموسكو وبرلين وبيونغ يانغ وواشنطن، هناك قناعة بأن الحروب المقبلة ستُخاض بأجنحة صغيرة بلا طيار.
وإذا كانت الحربان العالميتان السابقتان قد ارتبطتا بالمدافع والدبابات والطائرات المقاتلة، فإن التاريخ قد يذكر الحرب الروسية – الأوكرانية باعتبارها الحرب التي دشّنت رسمياً "عصر المسيرات"، حيث أصبح زمن الدرونز حقيقة عسكرية لا يمكن تجاهلها بعد اليوم.