تُعيد تجربة جيمس أولسون، أحد أبرز مسؤولي مكافحة التجسس في وكالة المخابرات المركزية، تسليط الضوء على القواعد التي تحكم هذا العالم المغلق. فالرجل الذي أمضى عامين في جامعة تكساس أي آند إم أواخر التسعينيات لتطوير برامج أكاديمية متخصصة، عاد بعد عقدين ليجمع خلاصة خبرته في كتاب يكشف مكامن الخلل والاختراق في أجهزة الاستخبارات الأميركية.
ويقدّم أولسون قراءة تُظهر كيف تتحوّل مكافحة التجسس إلى خط الدفاع الأول عندما تتصاعد الهجمات النوعية ويزداد نشاط شبكات العملاء. فعمليات الاغتيال والاختراق التكنولوجي والاختراق
البشري ليست سوى نتائج مباشرة لفجوات داخل المؤسسات، كما حدث في
لبنان وإيران خلال الحرب الأخيرة مع
إسرائيل، حين برزت بوضوح فعالية شبكات بشرية استطاعت تمرير معلومات حساسة.
ويشرح أولسون أن النجاح الحقيقي يبدأ عندما تنتقل المؤسسات من الدفاع إلى الهجوم، عبر تجنيد ضباط الخصم لكشف خرائط شبكاته. وقد شكّلت التجارب الأميركية في
الصين وروسيا نماذج صادمة بعد خسارة عشرات العملاء نتيجة اختراقات عميقة قادها ضباط مثل ألدريتش أميس وهارولد نيكلسون، ممن دمّروا سنوات من العمل الاستخباري الأميركي.
وتكشف تجارب أخرى حجم الضرر الذي تُحدثه الثقة المفرطة داخل المؤسسة. فالقضية التي واجهها أولسون شخصيًا عام 1987، حين تبيّن أن جميع "العملاء" الكوبيين الذين ظنت الوكالة أنها جنّدتهم كانوا عملاء مزدوجين، أظهرت أن الإخفاق ليس تقنيًا أو ظرفيًا، بل بنيوي مرتبط بثقافة المؤسسة.
وتحتل الخبرة البشرية مكانة مركزية في هذا المجال. فالمحققون الذين يلاحقون العملاء ويتعقبون الأنماط السلوكية يعيشون وسط ضغط ذهني دائم، بينما يبقى تجاهل دورهم أحد أسباب الاختراق. أما امتلاك الميدان فيُعد عنصرًا فاصلًا، لأن الشارع يختبر قدرة الجهاز على المراقبة والتخفي، كما حدث حين نجح إدوارد هوارد في الإفلات من فريق مراقبة كامل والهرب إلى
روسيا.
ويشدّد أولسون على أن الأجهزة التي تنسى تاريخها تعيد إنتاج الأخطاء نفسها. فالتاريخ بالنسبة له مرجع ضروري، وليس مادة أرشيفية. ومع ذلك، أظهرت اختبارات روتينية داخل "السي آي إيه" أن معظم العاملين يجهلون أبسط محطات تاريخ مهنتهم، وهو ما يفتح الباب لتكرار الإخفاقات نفسها.
وتبرز أهمية التحليل بوصفه قلب العملية الاستخبارية، لأن البيانات وحدها لا تكفي ما لم تُقرأ بعيون خبيرة. فالتقصير التحليلي سبق أن أدّى إلى ثغرات قاتلة، من بيرل هاربر إلى هجمات 11 أيلول، حين كانت المؤشرات موجودة لكن لم تُجمع في سياق واحد.
ويحذّر أولسون من ضيق الأفق الذي يجعل الأجهزة تركّز على خصم واحد وتتجاهل تهديدات ناشئة، وهو ما حدث قبل هجمات
القاعدة التي استغلّت انشغال المؤسسة بالاستخبارات الروسية والصينية.
أما التدريب فيراه حجر الأساس لأي جهاز يواجه خصومًا محترفين، فالتنظير لا يصنع ضابطًا قادرًا على قراءة الرصد الميداني أو التعامل مع الضغط النفسي. ويشير إلى حاجة الفرق إلى بيئات تدريب واقعية تُحاكي مواقف شديدة التعقيد، بدل الاكتفاء بالصفوف المغلقة.
وتحتل مكانة مكافحة التجسس داخل المؤسسة حيّزًا حساسًا، إذ غالبًا ما تُستبعد هذه الفرق عن النقاشات الكبرى بحجة أنها تُبطئ الخطط. لكن إقصاءها يؤدي إلى قرارات مبنية على رؤية ناقصة. ولذلك يرى أولسون أن حضورها يجب أن يكون ثابتًا في كل ما يتصل بالأمن القومي.
ويعتبر التدوير الوظيفي ضرورة لا خيارًا، لأن الضابط الذي يمكث طويلاً في الموقع نفسه يعتاد المشهد ويصبح أقل قدرة على التقاط الإشارات الدقيقة، كما يصبح أسهل بالنسبة للخصم في التنبؤ بسلوكه واستهدافه.
وتكتمل الدائرة بوصية الصبر. فمكافحة التجسس ليست عملاً سريعًا، بل عملية طويلة قد تبدو جامدة، بينما تكون في حقيقة الأمر سلسلة تراكمية من الإشارات الصغيرة التي تقود في النهاية إلى كشف الاختراق. والضابط الذي يتسرّع في الحكم أو ينسحب مبكرًا يتيح للخصم فرصة إعادة ترتيب صفوفه.
وفي المحصلة، يكشف أولسون عبر وصاياه العشر أن مكافحة التجسس ليست إجراءات تقنية متفرّقة، بل منظومة مترابطة تتكامل فيها الهجوميات والتحليل والتاريخ والميدان والتدريب والإصرار.
وهي منظومة لا يُكتب لها النجاح إلا حين تتحرر من الانغلاق المؤسسي ومن الثقة المفرطة التي يصنعها الروتين، وتعمل وفق عقلية تشكّل الخطر قبل ظهوره وتواجهه قبل أن يتحوّل إلى اختراق واقعي.
(الجزيرة + مواقع إلكترونية)