أعادت سنغافورة فتح واحد من أكثر فصول تاريخها حساسية، مع صدور كتاب جديد يحمل عنوان "ملف الألباتروس: الانفصال من الداخل"، يستند إلى مذكّرات ووثائق رُفعت عنها السرية أخيرًا لـجو كينج سوي، المهندس الاقتصادي لسنغافورة الحديثة وأحد العقول المركزية خلف قرار الانفصال عن ماليزيا عام 1965.
اختار جوه رمزية "القطرس" – المستعارة من قصيدة البحّار القديم لصمويل تايلور كولريدج – ليصف ماليزيا كـ"عبء ثقيل معلّق حول عنق سنغافورة"، في إشارة إلى خيبة الأمل العميقة من مشروع الاتحاد الذي كان من المفترض أن يجلب "الرخاء والسوق المشتركة والسلام والوئام"، قبل أن يتحوّل إلى ما وصفه بأنه "حلقة حزينة لكنها مفيدة في تثقيفنا السياسي".
الكتاب، الواقع في 487 صفحة والمحرَّر من سوزان سيم ضمن مشروع تقوده وزارة التنمية الرقمية والإعلام في سنغافورة، يضمّ مذكّرات جوه المكتوبة بخط يده، وأوراق
مجلس الوزراء بين عامي 1964 و1965، إلى جانب مقابلات تاريخية مع الآباء المؤسسين، بينهم لي كوان يو وزوجته كوا جيوك تشو، ومقتطفات غير منشورة سابقًا. وقد أُطلق الكتاب رسميًا على يد رئيس الوزراء السابق لي هسين لونج، نجل لي كوان يو.
بعد انضمام سنغافورة إلى اتحاد ماليزيا في أيلول 1963، تصاعد التوتر بين حزب العمل الشعبي (PAP) بقيادة لي كوان يو، ومنظمة الملايو الوطنية المتحدة (أمنو) بقيادة تونكو عبد الرحمن.
طرح حزب العمل الشعبي شعار "ماليزيا ماليزية"، بما يعني مساواة سياسية ومدنية لكافة المواطنين، وهو ما اعتبرته "أمنو" تهديدًا مباشرا لامتيازات الملايو وسياسات التفضيل الإيجابي. وعلى الرغم من تفاهم مبدئي بعدم دخول كل طرف إلى ساحة انتخابات الآخر، خاض تحالف "أمنو" الانتخابات في سنغافورة، وردّ حزب العمل الشعبي بالتقدم للانتخابات في ماليزيا، ما فاقم التوتر السياسي والطائفي.
هذا الاحتقان انفجر في أعمال الشغب العرقية عام 1964، خلال موكب للمولد النبوي وما تلاه من اضطرابات، وأسفرت المواجهات عن مقتل 36 شخصًا. في الوثائق، يتّهم جوه ولي شخصيات مثل سيد جعفر البار و"متطرفي أمنو" بالتحريض على هذه الأحداث، بما جعل استمرار
الاتحاد على حاله شبه مستحيل.
مفاوضات سرّية.. وانفصال مُتفق عليه
خلافًا للسرد الشائع لسنوات، تكشف وثائق "ملف الألباتروس" أن سنغافورة لم تُطرَد من الاتحاد طردًا أحاديًا بعد عامين فقط من الاندماج، بل جاء الانفصال نتيجة سلسلة اجتماعات سرّية وتفاهمات متبادلة.
يروي جوه أنه سمع لأول مرة من تونكو، في كانون الأول 1964، رغبة واضحة في "الانفصال" عن سنغافورة. وفي تموز 1965، طرح جوه بنفسه على نائب تونكو، تون عبد الرزاق، فكرة الانفصال الكامل: إذا غادرنا ماليزيا وأصبحنا دولة مستقلة، سنُخفّف عنكم مشاكلكم، ونتخلّص نحن من مشاكلكم. التوترات الطائفية ستتراجع؛ أنتم وحدكم، ونحن وحدنا.
في حين كان جوه حاسمًا في قناعته بأن الاستمرار في الاتحاد "ممارسة في العبث"، كان لي كوان يو لا يزال يأمل في اتحاد أكثر مرونة أو صيغة كونفدرالية بدلاً من القطيعة الكاملة، وحاول في 7 آب 1965 – قبل يومين فقط من إعلان الانفصال – أن يقنع تونكو بالعودة إلى الخطة الأصلية. لكن ردّ رئيس الوزراء الماليزي كان قاطعًا: القرار حُسم، ولا عودة عنه.
تظهر المذكرات كيف جرى إعداد اتفاقية الانفصال بسرية تامة على يد المحامي إدموند ويليام باركر، لتفادي تدخل بريطاني محتمل لإفشال الترتيبات، كما حصل في محطات سابقة. وصف لي كوان يو العملية بأنها أشبه بـ"انقلاب غير دموي" أو "انقلاب دستوري" تم تحت أنظار
البريطانيين والأستراليين والنيوزيلنديين الذين كانوا يحمون ماليزيا عسكريًا.
يقول لي إن تونكو وضعه أمام معادلة قاسية: إمّا أن نخضع لسياساته، وإمّا أن نتخذ موقفًا. وقد اتخذنا موقفًا.
وفي المقابل، وصف جوه الانفصال بأنه "أفضل ما حدث لسنغافورة"، إذ يعتقد أنه تحت حكم ماليزيا كان سكان
الجزيرة سيعاملون كـ"غير بوميبوترا"، ويواجهون التمييز وربما السجن أو "دهسهم بشاحنة"، على حد تعبيره.
في الليلة التي سبقت إعلان الانفصال، يتذكر لي "ليلة مضطربة من التقلب والاضطراب" في سري تيماسك، إذ كان يشعر أنه يخذلك قاعدة شعبية واسعة تجاوبت مع شعار "ماليزيا ماليزية" في مالايا وصباح وساراواك.
في المؤتمر الصحفي الشهير في 9 آب، حيث بكى لي على الهواء، يوضح في الكتاب أن ألمه لم يكن فقط على مصير سنغافورة، بل أيضًا على المؤيدين عبر ماليزيا الذين آمنوا بمشروع متعدد الأعراق، واضطر للتخلي عنه خوفًا من سفك الدماء واتساع رقعة الشغب. (scmp)