منذ الأسابيع الأولى للحرب في أوكرانيا، اتجهت روسيا إلى إعادة ضبط نمط عملياتها العسكرية، مبتعدة عن خيار الهجوم الواسع لمصلحة التقدم البطيء أو ما يوصف بـ"القضم المنهجي". ويأتي هذا التحول، وفق ما يورده خبراء، على وقع معطيات ميدانية أظهرت أن الهجمات الكبرى تُراكم خسائر بشرية ولوجستية مرتفعة، خصوصاً مع طبيعة القتال داخل مدن محصنة أُعدّت عسكرياً على مدى سنوات.
وتقوم هذه المقاربة على استنزاف قدرات القوات
الأوكرانية تدريجياً على المستويين العسكري واللوجستي، مع تقليل الكلفة على القوات والمعدات، والحفاظ على تماسك منظومة القيادة والإمداد عبر أكثر من جبهة. ويرى خبراء أن هذا النهج منح
موسكو قدرة أكبر على التحكم بإيقاع العمليات، وتفادي مخاطر فتح جبهات واسعة قد تقود إلى اختلالات ميدانية مفاجئة.
وبعده السياسي حاضر أيضاً في خلفية هذا الخيار، إذ تراهن موسكو، وفق الطرح نفسه، على أن إطالة أمد الصراع ستقود إلى إنهاك أوكرانيا وحلفائها الغربيين اقتصادياً وسياسياً، مقابل الحفاظ على قدرة روسيا على مواصلة الحرب. وضمن هذا المنطق، يصبح الحسم التدريجي خياراً محسوباً لفرض واقع ميداني جديد بدل المغامرة بهجوم شامل مرتفع الكلفة وغير مضمون النتائج.
وفي هذا السياق، نقلت تصريحات عن المحلل السياسي والخبير في الشؤون الروسية محمود الأفندي أن موسكو حاولت في بدايات الحرب شن هجوم واسع بأساليب تقليدية قريبة من تكتيكات الحرب العالمية الثانية، لكن النتائج كانت مكلفة على مستوى العتاد والجنود، ما دفعها إلى مراجعة الخيارات والانتقال إلى أساليب تُصنَّف ضمن "الحرب الحديثة"، القائمة على استهداف البنية الخلفية للخصم بدل الاندفاع في هجوم شامل.
وبحسب الأفندي، يرتكز هذا النمط أيضاً على ضرب البنية العسكرية واللوجستية، وإرسال وحدات صغيرة ومتخصصة لتنفيذ عمليات اختراق داخل المدن، في ظل مدن أوكرانية جرى تجهيزها عسكرياً منذ عام 2014. كما أشار إلى أن الحديث عن حسم خلال "3 أو 4 أيام" لم يصدر عن روسيا بقدر ما رُوّج له في الإعلام الأميركي والغربي، إضافة إلى الإعلام الأوكراني، لافتاً إلى أن هدف موسكو كان تقليل الخسائر البشرية والحفاظ على القدرات عبر نمط قتال منهجي يقوم على استدراج القوات الأوكرانية إلى جبهات محددة ثم تدميرها.
وتضمن الطرح نفسه مقارنة رقمية لما قبل الحرب، إذ قُدّر قوام الجيش الأوكراني بنحو 810 آلاف مقاتل مقابل نحو مليون ومئة ألف جندي روسي، مع التأكيد أن العامل الحاسم لم يكن العدد وحده بل الأسلوب العسكري. كما ورد ضمن هذه المقاربة حديث عن "فلسفة عسكرية" تعتبر الحرب صراعاً بين الجيوش لا بين الشعوب، مع انتقاد نهج غربي يقوم على إيقاع أكبر قدر ممكن من الخسائر بين المدنيين للضغط على الحكومات، والاستشهاد بما جرى في
لبنان وغزة وأفغانستان.
من جهته، اعتبر العميد نضال زهوي، الخبير العسكري، أن ما تقوم به روسيا يندرج ضمن استراتيجية "القضم البطيء" المعروفة في العقائد القتالية الشرقية. ولفت إلى أن أي قراءة للهجوم الروسي يجب أن تتصل بقواعد تكتيكية عالمية، بينها مبدأ "3 مقابل 1" في الهجوم، باعتبار أن جزءاً من القوة فقط يبقى قادراً على مواصلة القتال بعد المعركة الأولى.
وربط زهوي الابتعاد عن الهجوم الكاسح بتعقيد القرار عندما تتقارب القدرات الدفاعية والهجومية للطرفين، لافتاً إلى أن الجيشين الروسي والأوكراني تلقيا تدريبات على أسلوب الدفاع بالمجموعات الصغرى، ما خلق حالة من التكافؤ في القدرات وإن لم تكن بالضرورة في الكفاءة القتالية. وأضاف أن من أسباب التحول أيضاً حرص موسكو على الحفاظ على الموارد البشرية بعد خسائر البداية، ولا سيما في المحور المتجه نحو
كييف، إضافة إلى القيود اللوجستية وتعدد الجبهات المفتوحة من الدونباس إلى خاركوف وزابوروجيا، بما يجعل أي تقدم سريع ضغطاً على منظومة الإمداد والقيادة والسيطرة.
وفي الخلاصة التي يطرحها الخبراء، تحمل هذه الاستراتيجية رسائل سياسية للغرب مفادها أن روسيا قادرة على خوض حرب طويلة الأمد، مع رهان على استنزاف
أوروبا اقتصادياً وسياسياً وإنهاك الرأي العام
الغربي، بما يفتح الباب أمام مفاوضات مستقبلية من موقع أقوى. كما يُشار إلى أن الأهداف لا تُحصر بالسيطرة العسكرية المباشرة، بل تمتد إلى صياغة معادلة استراتيجية جديدة، في مسار يُفهم منه السعي إلى خنق أوكرانيا جغرافياً وسياسياً بما يزيد الضغط على أوروبا باتجاه خيار التفاوض. (ارم)