كتب موقع "الجزيرة": "على مر السنين أجرت
إسرائيل وأرض الصومال اتصالات في سياق بحث إمكانية الاعتراف المتبادل والتعاون في مجالات الأمن والزراعة والملاحة البحرية. وتنظر إسرائيل إلى أرض الصومال كشريك محتمل في مواجهة النفوذ الإسلامي المتطرف في القرن الأفريقي، وكمصدر محتمل للدعم الإستراتيجي بالقرب من طرق الشحن الحساسة".
وردت تلك الفقرة في دراسة نشرها معهد الأمن القومي
الإسرائيلي بقيادة مدير شعبة الاستخبارات العسكرية السابق تامير هايمان، في 10 كانون الأول 2025 بعنوان "إسرائيل في ساحة البحر الأحمر: إستراتيجية بحرية محدثة"، أي قبل ما يزيد بقليل عن أسبوعين من إعلان رئيس إقليم أرض الصومال الانفصالي عبد الرحمن عرو، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو توقيع اتفاقية اعتراف متبادل تتضمن إقامة علاقات دبلوماسية كاملة، وتعيين سفراء، وافتتاح سفارات بين الجانبين.
يوضح هذا الترتيب الزمني أن الاعتراف المتبادل حدث ضمن مسار تبلور أولا داخل المؤسسات الأمنية ومراكز الدراسات
الإسرائيلية قبل انتقاله إلى المستوى السياسي، في ظل إدراج القرن الأفريقي في سلّم الأولويات الإسرائيلية، والبحث عن خيارات عملية لتعزيز الحضور البحري والاستخباري في محيط البحر الأحمر، على وقع التحديات التي واجهتها إسرائيل في التعامل مع ملف الحوثيين خلال العامين الأخيرين. وبالتالي سنحلل دلالات وتوقيت الإعلان عن هذا الاعتراف المتبادل.
أهمية إقليم أرض الصومال لإسرائيل
تنبع أهمية إقليم أرض الصومال في الحسابات الإسرائيلية من عاملين متلازمين: الموقع الجيوسياسي، والاستعداد السياسي للتعاون مع أي طرف خارجي يعترف باستقلالها.
فالإقليم يتموضع عند المدخل الجنوبي لخليج عدن، مقابل السواحل الجنوبية لليمن، في نقطة وصل مباشرة بين البحر الأحمر والمحيط الهندي. هذه الجغرافيا هي التي منحت المنطقة قيمتها الإستراتيجية تاريخيا، ودفعـت بريطانيا إلى بسط سيطرتها عليها في أواخر القرن التاسع عشر، كما دفعت
الولايات المتحدة إلى تأمين وجود عسكري فيها خلال ثمانينيات القرن الماضي في ذروة الحرب الباردة، ضمن مقاربة احتواء النفوذ السوفياتي في القرن الأفريقي.
اليوم، تقع سواحل أرض الصومال البالغ طولها نحو 740 كيلومترا على مسافة تتراوح بين 300 إلى 500 كيلومتر من المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين في اليمن، بما في ذلك ميناء الحديدة.
وفي ظل إخفاق الولايات المتحدة وإسرائيل، خلال الحرب الأخيرة، في تحقيق ردع عسكري ضد الحوثيين، يكتسب هذا القرب الجغرافي قيمة عملياتية إضافية، إذ يوفّر لإسرائيل إمكانية العمل من مسرح قريب من مناطق التهديد بدلا من الاكتفاء بإدارة الحرب من مسافات بعيدة، كما يؤمّن خيارات مرنة لإعادة التزود بالإمدادات اللوجستية في البحر أو عبر موانئ حيوية مثل ميناء بربرة.
ضمن هذا الإطار، يُطرح موقع إقليم أرض الصومال بوصفه منصة مناسبة لمجموعة واسعة من المهام، تشمل جمع المعلومات الاستخباراتية ومراقبة التحركات العسكرية للحوثيين، وإسناد عمليات بحرية وجوية سواء في إطار الردع أو اعتراض الهجمات بالطائرات المسيرة والصواريخ أو حتى شن عمليات الهجومية داخل اليمن فضلا عن اعتراض عمليات تهريب الأسلحة لصالح الحوثيين. ويقارب هذا الدور، في منظور معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، الوظيفة التي أدّاها التحالف مع أذربيجان في تعزيز القدرة العملياتية والاستخباراتية لإسرائيل في مواجهة
إيران، مع فارق اختلاف الساحة والتهديد.
ولا تقل البيئة السياسية لأرض الصومال أهمية عن موقعها الجغرافي في الحسابات الإسرائيلية. فمنذ سنوات، تعمل قيادتها على ترسيخ علاقات وثيقة مع الدول الغربية وحلفائها، في وقت تبدو فيه البدائل الإقليمية الأخرى محدودة الجدوى من منظور تل أبيب. فإريتريا، رغم قربها النسبي من مسرح العمليات اليمني، تتبنى توجّها معاديا للغرب وتحافظ على علاقات وثيقة مع إيران. أما جيبوتي، فعلى الرغم من موقعها الإستراتيجي، فتلتزم بسياسة حياد حذر في النزاعات الإقليمية، بما يقيّد إمكان توظيفها أمنيا. في المقابل، تفتقر إثيوبيا إلى منفذ بحري ما يحرمها من القدرة على لعب دور نقطة ارتكاز بحري لإسرائيل.
وضمن هذا المشهد، تبرز أرض الصومال بوصفها حالة مختلفة، تجمع بين موقع جغرافي ملائم وانفتاحها على المبادرات الإقليمية المؤيدة لإسرائيل، بما في ذلك توسيع اتفاقيات أبراهام، وصولا لانفتاح حكومة إقليم أرض الصومال على قبول "إعادة توطين أهل غزة" في أراضيها البالغ عدد سكانها نحو 3 ملايين نسمة.
ويرتبط توقيت الاعتراف الإسرائيلي مع حراك دبلوماسي نشط تقوده قيادة إقليم أرض الصومال لتوسيع شبكة علاقاتها الخارجية، ولا سيما مع تايوان وإثيوبيا ودول أخرى، بالتوازي مع سعيها المكثف لاستقطاب اعتراف أميركي بالاستقلال في ظل إدارة ترامب. ولذا يُنظر إلى الانضمام إلى الاتفاقيات الأبراهامية والتطبيع مع إسرائيل بوصفهما أدوات سياسية لإعادة إدراج ملف الاعتراف الأميركي على جدول الأعمال، والذي تراهن عليه هرجيسا باعتباره المدخل الأساسي للانتقال من وضع دولة الأمر الواقع إلى مربع تكتسب فيه شرعية دولية.
أزمة سابقة بسبب إثيوبيا
لم تكن خطوة إسرائيل تجاه إقليم أرض الصومال الانفصالي أول محاولة لتوظيف الإقليم خارج إطار الدولة الصومالية. ففي الأول من كانون الثاني 2024، وقّع رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد ورئيس أرض الصومال آنذاك موسى بيحي عبدي مذكرة تفاهم منحت إثيوبيا حق الوصول إلى شريط ساحلي بطول 20 كيلومترا، واستئجار الأرض لمدة 50 عاما لبناء قاعدة بحرية عسكرية، إلى جانب استخدام ميناء بربرة بوصفه منفذا تجاريا رئيسيا لاستيراد البضائع.
في المقابل، تضمّن الاتفاق اعترافا إثيوبيا بأرض الصومال كدولة ذات سيادة، ومنح هرجيسا حصة في ملكية الخطوط الجوية الإثيوبية، ما فجّر أزمة إقليمية واسعة.
رأت مقديشيو في الخطوة انتهاكا مباشرا لسيادتها ومقدمة لتفكيك الدولة عبر تشجيع الأقاليم الصومالية على عقد تفاهمات خارج إطار الدولة الفدرالية، فيما استثمرت حركة الشباب الاتفاق لتغذية خطابها المعادي لإثيوبيا، مقدّمة نفسها بوصفها الجهة الوحيدة القادرة على ردع أديس أبابا، بينما أثارت طموحات آبي أحمد البحرية مخاوف مصر وتركيا ودول الجوار، التي تمسكت بوحدة الصومال ورفضت أي تغيير أحادي للحدود.
وعلى الرغم من رعاية تركيا لمسار تهدئة مؤقت عبر "إعلان أنقرة" في كانون الأول 2024 بحضور الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود ورئيس الوزراء الإثيوبي، والذي نص على احترام وحدة وسيادة الدولتين، والاتفاق على بحث ترتيبات تتيح لإثيوبيا وصولا تجاريا إلى البحر تحت السيادة الصومالية الكاملة، فإن جذور الأزمة بقيت قائمة، مع استمرار سعي إثيوبيا للوصول المباشر إلى البحر، ومراهنة أرض الصومال على مقايضة الجغرافيا بالاعتراف الدولي.
الموقف العربي والإسلامي والأفريقي مقابل الموقف الأميركي
قوبل الاعتراف الإسرائيلي بأرض الصومال برفض عربي وإسلامي وأفريقي واسع، تمحور حول اعتبار الخطوة انتهاكا مباشرا لسيادة الصومال وتهديدا للاستقرار الإقليمي. فالحكومة الصومالية أكدت عبر بيان رسمي وتصريحات لوزير إعلامها، أن الاعتراف يعكس أجندة تستهدف تقويض وحدة الدولة الصومالية، وتعهدت باستخدام الأدوات الدبلوماسية والسياسية والقانونية لمنعه. وتواكب هذا الموقف مع تحرك دبلوماسي إقليمي لمصر والسعودية وتركيا والأردن، في محاولة لاحتواء التداعيات ومنع ترسيخ سابقة الاعتراف.
على المستوى المؤسسي، أعلنت مفوضية الاتحاد الأفريقي ومنظمة "الإيجاد" رفضهما القاطع لأي اعتراف أحادي بأرض الصومال، باعتباره مخالفا لميثاق
الأمم المتحدة والقانون التأسيسي للاتحاد الأفريقي. وتُوّج هذا الاتجاه ببيان مشترك من دول عربية وإسلامية وإفريقية وازنة من بينها
السعودية وباكستان وقطر ومصر وتركيا ونيجيريا وإيران وإندونيسيا فضلا عن مجلس التعاون الخليجي، شدد على دعم سيادة الصومال ووحدة أراضيه، والتحذير من خطورة فتح باب الاعتراف بالأقاليم الانفصالية لما يحمله من تهديد للسلم والأمن الدوليين، إلى جانب رفض الربط بين هذه الخطوة وأي مخططات لتهجير
الفلسطينيين.
في المقابل، اتسم الموقف الأميركي بالحذر، فقد أشار الرئيس
دونالد ترامب إلى أن الاعتراف الأميركي بأرض الصومال قيد الدراسة، من دون الالتزام باتباع الخطوة الإسرائيلية، بما يعكس رغبة في إبقاء الملف ورقة تفاوض.
ويتقاطع هذا التردد مع حراك داخل الكونغرس، تقوده أصوات
جمهورية بارزة مثل السيناتور تيد كروز، تدعو إلى الاعتراف الأميركي بأرض الصومال بوصفها شريكا محتملا في البحر الأحمر، في إطار توجه يرى في ذلك فرصة لتعزيز النفوذ الأميركي وتقليص الاعتماد على شركاء تقليديين في دولة الصومال أقل استقرارا.
بيد أن هذا الدفع السياسي يصطدم بجملة اعتبارات كابحة داخل واشنطن. فمنذ عقود، تقوم السياسة الأميركية على دعم مبدأ "الصومال الواحد"، وتنظر إلى حكومة مقديشو بوصفها شريكا أمنيا لا يمكن التضحية به في ظل الانخراط العسكري والاستخباري الأميركي ضد حركة الشباب. ويُخشى أن يُفسّر أي اعتراف باستقلال إقليم أرض الصومال الانفصالي في الداخل الصومالي على أنه تخلّ أميركي، قد يشجع نزعات انفصالية أخرى، ويمنح حركة الشباب زخما إضافيا.
إلى جانب ذلك، يُقيّد الموقف الأميركي برفض معظم الدول العربية والإسلامية المؤثرة أي مساس بوحدة الصومال، وتتمتع هذه الدول بنفوذ في دوائر صنع القرار بواشنطن. كما تميل الدول الأفريقية، إلى معارضة الاعتراف بالكيانات الانفصالية خشية فتح سلسلة ارتدادات داخل القارة. ويجعل هذا الاصطفاف كلفة الاعتراف الأميركي أعلى من مكاسبه المحتملة في المدى القريب.
آفاق الاعتراف
تفتح خطوة الاعتراف الإسرائيلي باستقلال إقليم أرض الصومال مسارا عالي الكلفة سياسيا وإستراتيجيا تتجاوز تداعياته حدود العلاقة الثنائية إلى إعادة خلط التوازنات في القرن الأفريقي والبحر الأحمر. فعلى المدى القريب، قد تمنح الخطوة إسرائيل موطئ قدم في منطقة شديدة الحساسية، لكنها في المقابل ستُدخلها في مواجهة مع كتلة إقليمية واسعة ترفض المساس بوحدة الصومال، وتتعامل مع الخطوة بوصفها سابقة تهدد استقرار المنطقة.
قد يتحول الاعتراف الإسرائيلي إلى عامل ضغط على هرجيسا نفسها، إذ سيضعها في قلب استقطاب إقليمي حاد بين محاور متنافسة، ويقيد قدرتها على توسيع شراكاتها العلنية، بدلا من أن يفتح لها باب الشرعية الدولية الذي تراهن عليه، كما ينذر تكريس الاعتراف من دون غطاء دولي أو إقليمي كافٍ بزيادة وتيرة التوتر في البحر الأحمر والقرن الأفريقي.
في المقابل، ستلجأ الحكومة الصومالية والدول الرافضة للاعتراف الإسرائيلي باستقلال إقليم أرض الصومال الانفصالي إلى مقاربة تقوم على منع تحوّل الاعتراف الإسرائيلي إلى أمر واقع قابل للترسيخ.
ويُتوقع أن يتركز جهد هذه
الدول على تفعيل الأطر الجماعية مثل الاتحاد الأفريقي، جامعة الدول العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي فضلا عن علاقاتها مع الغرب والصين لإحاطة قرار الاعتراف بسياج سياسي وقانوني يمنع توسعه، مع تعزيز التنسيق الثنائي لرفع كلفة أي ترجمة عملية لخطوة الاعتراف على الأرض.