ودع
لبنان وقضاء جبيل، في مأتم رسمي،
المدير العام السابق للآثار الدكتور كميل توفيق الأسمر. ترأس صلاة الجنازة في كنيسة مار يوحنا مرقص رئيس الدير الاباتي سيمون عبود، عاونه لفيف من الكهنة، في حضور النائب سيمون أبي
رميا، النائب زياد الحواط، المدير العام للآثار سركيس الخوري، عائلة الراحل وفاعليات.
عبود
بعد الانجيل ألقى عبود عظة قال فيها: "في حضرة الرحيل يتّسع الصمت ليغدو كتابًا مفتوحًا على فصولٍ من تاريخٍ حفظه رجلٌ لامس بذاكرة العقل فحسب، بل بذاكرة الروح، وأعاد للتراث شهادته الأولى عن حضور الله في التاريخ. وفي حنايا هذا التاريخ نقف أمام سيرة رجلٍ لم يتعامل مع الآثار كأحجارٍ صامتة، بل كرسائل مكتوبة على وجدان الزمن، يقرؤها بعين الإيمان، ويعيد إليها نبضها بيدٍ تلامس ذاكرة الروح وتعيد للماضي مهابته وللحاضر جذوره. لقد قرأ في الأطلال ما لا يُرى، وفتش في الثقوب والشقوق شرارة الروح التي أبقتها الأجيال لتقول: هنا مرّ الإنسان، وهنا عبرت يد الله".
أضاف: "كيف نختزل سيرة رجلٍ نشأ في بيتٍ لم يعرف إلا الإيمان منارة، والعلم رفيقًا، ودماثة الأخلاق نهجًا يوميًا؟ في منزلٍ لم يُسمع فيه إلا همسات الصلاة، ولا تر فيه إلا ظلال الوقار. في منزل آل الأسمر ولد كميل ونما، ناسجًا مع أشقائه الثلاثة وشقيقاته ثوبًا محبوكًا بخيوط الاحترام، مطرّزًا بنُبل العطاء، لا تشوبه خصومة، ولا يعتريه تباعدًا. وفي قلب هذا النسيج، كان هو النبض الذي يمنحهم دفء الحضور، وحكمة الكلمة الهادئة، وكرمًا يشبه سريان الماء في الحجر الصامت. في حضوره كانت الألفة تنمو، والكلمة الطيبة تجد مكانها، والابتسامة تتحوّل لغة حياة. وأكمل المسيرة مع رفيقة الدرب التي وجد في قلبها وطنًا لا يتزعزع، فكانت نبضه الهادئ، وسرّ راحته، ومرآته التي يرى فيها أجمل ما فيه. وهذا ما ردّدته مرارًا، مؤمنةً بأنه سندها وسرّ قوتها. ومعًا نسجا من دفء عشقهما بيتًا يضج بالطمأنينة، ورُزقا من ثمرة هذا الودّ ابنَين وابنةً واحدة، ربَّياهم على عطر الصلاة ومعنى
العلم والثقافة".
وتابع: "كان رجلًا جعل من العلم سلمًا يرتقي به، فارتفع درجاتٍ لا تُقاس بالشهادات وحدها، بل بعمقٍ فكري وشغفٍ لا يهدأ، حتى استوى على قمّةٍ لا يبلغها إلا الذين صاغوا عقولهم من نور، وهممهم من صبر، وسيرتهم من سموٍّ لا يعرف الانحناء. حصل على شهادة الهندسة المعمارية، ثم ارتقى إلى الدكتوراه في الترميم، لا طلبًا لوجاهة أكاديمية، بل شغفًا بإعادة الروح إلى ما سقط من ذاكرة الحجر، وبإحياء ما دفنته الأزمنة تحت غبارها. وفي مسيرته، تناثرت منشوراته العلمية والثقافية كأنها شذراتٌ من نور، تعمّق الفهم، وتفتح للباحثين آفاقًا جديدة، وتمنح للتراث لغةً تنطق بصمت الحجارة. كان يكتب لا ليثبت اسمه على صفحاتٍ جامدة، بل ليمنح الأجيال مفاتيح تقرأ بها الحاضر في ضوء الماضي. وهكذا، بالرؤية التي لا تخشى، وبالإرادة التي لا تنحني، ارتقى إلى مديرية الآثار مديرًا عامًا، لا لأن المنصب كان ينتظره، بل لأن التاريخ نفسه وجد فيه رجلًا قادرًا على أن يحمله بلا تردد. تسلّم موقعه كما يتسلّم الكاهن مفاتيح الهيكل، بخشوع أمام عظمة الإرث، وبصلابة ممن يعرف أن التراث رسالة وقيمة وهويّة نحرسها من الضياع. أصغى إلى التاريخ كما يصغي المؤمن إلى صلاة المساء ففي كل كنيسة رمّمها — وقد فاق عددها الستين — كان يدخل المكان كأنه يدخل قدس أقداسٍ جديد، يتحسّس الجدران بيدٍ تعرف أن الحجر ذاكرة، وأن الشقوق ليست عيوبًا بل شهادات. سمع في صدوع الجدران همسات الرهبان حين ينسلون إلى صلاة نصف الليل، واستعاد في نفس القلاع وقع حوافر الجيوش التي مرّت، وصدى أبواقٍ أخمدها الزمن، لكن التاريخ احتفظ بظلّها. لم يكن ترميمه مجرّد عملٍ تقني، بل كان إحياءً للحضور. فأعاد لكل مقامٍ روحه:لدير مار مارون عنّايا ومحبسته صمته المدوّي،ولكنيسة مار يوحنا مرقس هيبتها الأولى ودفء العبادة بين جدرانها، ولدير مار يوسف جربتا بلسم جرحه السادس ولدير البلمند إيمانه القويم ، كأنّه يفتّش تحت الغبار عن نورٍ دفين، ويعيد إشعاله، ليُظهر ما أراد الزمن نسيانه".
وختم: "نم قرير
العين، كميل كان حارس ذاكرةٍ لا تنام، وناقل تاريخٍ لا يزول، وصديق حجارةٍ لا تنطق إلا لمن يفهم لغتها. ارقد بسلام، يا من صرتَ في مسيرتك فصلًا من كتاب التراث، فصلًا يُقرأ بخشوع ويُصان كما تُصان الكنائس التي أعدتَ إليها الحياة".
وفي ختام الصلاة تقبلت العائلة التعازي ووري جثمان الراحل في مدافن العائلة. (الوكالة الوطنية للإعلام)