منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لم تعرف العملات الدولية عملةً تضاهي الدولار الأميركي في النفوذ والهيمنة. فقد ظلت "الورقة الخضراء" حجر الأساس في التجارة العالمية، واحتياطيات البنوك المركزية، والتسعير العالمي للسلع الاستراتيجية مثل النفط والذهب. لكن خلال السنوات الأخيرة، بدأت تتعالى الأصوات والتقارير التي تتساءل: هل دخل الدولار بالفعل مرحلة التراجع؟
1) كيف فرض الدولار هيمنته على العالم؟
يعود صعود الدولار الأميركي كعملة احتياطية عالمية إلى نحو قرن، عندما كانت الإمبراطورية
البريطانية تتراجع بعد الحرب العالمية الأولى. أصبح الدولار أيضاً من العملات الرئيسية المستخدمة في المعاملات الدولية، وبدأ تدريجياً في إزاحة الجنيه الإسترليني، مع اتجاه البنوك المركزية إلى الاحتفاظ بجزء أكبر من احتياطياتها بالدولار منذ أواخر عشرينيات القرن الماضي.
تفضّل معظم الدول الاحتفاظ باحتياطاتها بعملةٍ تتمتع بأسواق مالية كبيرة ومنفتحة، لأنها تريد التأكد من قدرتها على الوصول إلى تلك الاحتياطات وقت الحاجة.
في السنوات الأولى التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، كان الدولار هو حجر الأساس في نظام "بريتون وودز" وتأسس بناءً على تعهد أميركي بتحويل الدولارات إلى الذهب مقابل سعر صرف ثابت.
إبان عهد الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون، قررت الولايات في عام 1971، فك ارتباط الدولار بالذهب. وبعد أكثر من خمسين عاماً على "صدمة نيكسون"، لا تزال
الولايات المتحدة تجني فوائد الدور القيادي للدولار في الاقتصاد العالمي.
2) كيف عزز الدولار سطوة أميركا على الاقتصاد العالمي؟
تشير دراسة حديثة أعدها مركز الأبحاث الأميركي "المجلس الأطلسي" إلى أن تفوق الدولار يمنح
واشنطن ما يُعرف بـ"الامتياز الفريد"، إذ يمكنها تمويل عجز الموازنة والحساب الجاري بفوائد منخفضة، ما يُسهم في دعم الإنفاق العام، وعلى رأسه أكبر ميزانية دفاعية في العالم.
هذه الميزة مكّنت الولايات المتحدة من تنفيذ عمليات عسكرية باهظة التكاليف خارج حدودها، دون التعرض إلى ضغوط تمويلية محلية. كما تسمح للولايات المتحدة بالاقتراض بعملتها الوطنية فقط، ما يجنّبها مخاطر تقلبات أسعار الصرف، و يمنحها ميزة الاقتراض بتكاليف فائدة منخفضة نسبياً، كون احتياطيات البنوك المركزية في الدول الأخرى غالباً ما تُستثمر في أدوات الدين الأميركية، خصوصاً سندات الخزانة. وتبقى سوق سندات الخزانة الأميركية حتى الآن الأكبر والأكثر سيولة في العالم، ما يجعلها الأسهل من حيث الدخول إليها أو الخروج منها بيعاً وشراءً.
وتشير تقديرات حديثة إلى أن موقع الدولار كعملة احتياطية عالمية يتيح للحكومة الأميركية اقتراضاً يتجاوز ما يمكنها تحمّله بنسبة 22% بفضل هذه المكانة. كما أن الجمع بين القوة العسكرية والمالية عزز الثقة بالاقتصاد الأميركي، حيث يرى المستثمرون في أدوات الدين الأميركية ملاذاً آمناً.
وبعد إعادة انتخاب
دونالد ترامب لولاية ثانية، بدأ على الفور التصرف بوصفه المدافع الأول عن هيمنة الدولار، كما هدد أي دولة تتخلى عن التعامل بالدولار بأنه لن يمكنها بيع أي شيء للولايات المتحدة، وعليها العثور على "أحمق" آخر للتعامل معه، وفق"بلومبرغ". وفي 30 تشرين الثاني الماضي، حذر
ترامب "بريكس" من أنه سيطلب تعهدات بعدم تحركها لتدشين عملة جديدة كبديل لاستخدام الدولار، مكرراً تهديداته بفرض رسوم بنسبة 100%.
3) هل تتراجع هيمنة الدولار حالياً؟
يستشعر بعض صناع السياسات النقدية ومحافظو البنوك المركزية الكبرى حول العالم بأن هناك تراجعاً وشيكاً يختمر تحت السطح في هيمنة الدولار.
ترى رئيسة البنك المركزي
الأوروبي، كريستين لاغارد، أن هناك فرصة لمواجهة الهيمنة الطويلة للدولار حالياً مع تعزيز دور اليورو، بما يتيح لمنطقة العملة الموحدة الاستفادة من مزايا طالما كانت حكراً على العملة الأميركية، مثل انخفاض تكاليف الاقتراض للحكومات والشركات، واقتصاد يتمتع بقدر أكبر من الحماية ضد تقلبات أسعار الصرف.
أما الصين فترى عالماً تتنافس فيه العملات بقوة مع تراجع هيمنة الدولار، وتسعى منذ سنوات إلى تعزيز استخدام عملتها عالمياً من خلال توقيع اتفاقات لتسوية المدفوعات مع دول مثل البرازيل وإندونيسيا وغيرها، ودفع استخدام اليوان عالمياً.
وأشار محافظ البنك المركزي الصيني، بان قونغ شنغ، أن هناك نقاشات جارية حول العالم بشأن تقليص الاعتماد المفرط على عملة واحدة (الدولار)، مضيفاً أن مكانة اليوان العالمية قد تعززت خلال السنوات الأخيرة. وبلغت حصة اليوان من المدفوعات العالمية نحو 4.1% في مارس، بحسب بيانات "سويفت"، مقارنة بحصة الدولار البالغة 49%.
ومن الصين إلى
روسيا، حيث قال
وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في 22 نيسان 2024، إن روسيا والصين توقفتا بشكل شبه كامل عن استخدام الدولار في تجارتهما المتبادلة، حسبما أوردت حينذاك وكالة الأنباء الروسية (تاس). وكشف لافروف أن أكثر من 90% من التعاملات تتم تسويتها بالعملة الوطنية للبلدين.
كما تظهر المؤشرات الحالية أن هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي على أول طريق التراجع، حيث تتنامى طموحات الكتل الاقتصادية الصاعدة في كسر "الهيمنة الأحادية"، مع تزايد اعتماد بعض
الدول على العملات المحلية في التبادل التجاري.
وناقشت مجموعة "بريكس" العام الماضي مسألة تجنب الدولار، وزاد الغزو الروسي لأوكرانيا من اهتمام بعض الدول بالابتعاد عن العملة الأميركية، بعدما أثارت
العقوبات الغربية على موسكو تساؤلات حول ما إذا كانت العملة قد تحولت إلى أداة ضغط جيوسياسي، وفق "بلومبرغ".
في الإطار ذاته، قال البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية إن ارتفاع حجم تجارة روسيا باليوان الصيني في أعقاب الحرب في أوكرانيا وفرض العقوبات الغربية قد يقوّض قوة الدولار الأميركي.
كما فاقمت مخاطر الرسوم الجمركية التي فرضتها واشنطن هذا العام من النفور العالمي من الدولار، إذ طلب بعض المصدّرين
الأميركيين تسوية معاملاتهم بعملات بديلة، من بينها اليوان، في مسعى للحد من تأثير تقلبات العملة الأميركية، بحسب مسؤول في مصرف "يو إس بانكورب" (US Bancorp).
وتراجعت حصة الدولار من الاحتياطيات الدولية من نحو 70% في العقد الأول من القرن الحالي إلى 60% في عام 2022، وجاء بعده اليورو بنسبة 20%، ثم عدد من العملات الأخرى التي لم تتجاوز نسبتها خانة الآحاد، مثل الين الياباني والجنيه الإسترليني واليوان الصيني، وفق دراسة "المجلس الأطلسي".
4) لماذا يسعى خصوم أميركا إلى كسر هيمنة الدولار؟
يسعى خصوم واشنطن إلى كسر هيمنة الدولار لأنها تمنح الولايات المتحدة قوة غير مسبوقة في التأثير على الاقتصاد العالمي خارج حدودها السيادية. فعبر سيطرتها على العملة الاحتياطية الأولى عالمياً، تستطيع واشنطن فرض عقوبات مالية فعالة تعزل دولاً بأكملها عن النظام المصرفي العالمي، وتحد من قدرتها على إجراء معاملات تجارية دولية أو الوصول إلى احتياطاتها من النقد الأجنبي.
كما ترى دول، مثل الصين وروسيا وإيران، أن هذا النفوذ المالي يمثل أداة "هيمنة جيوسياسية" أكثر منه مجرد امتياز اقتصادي. فكلما بقي الدولار مهيمناً على التبادلات العالمية، ظلت الاقتصادات الأخرى مضطرة إلى المرور عبر النظام المالي الأميركي، بما فيه من قواعد رقابية وتشريعات تخدم مصالح واشنطن.
5) ماذا ستخسر واشنطن لو تخلى العالم عن الدولار؟
فقدان الدولار لمكانته على الساحة العالمية قد يؤدي إلى ارتفاع تكلفة الاقتراض وزيادة التقلبات المالية وتآكل القوة الشرائية ما قد يجبر الولايات المتحدة على المفاضلة الصعبة بين أولوياتها الدفاعية والاجتماعية، وفق دراسة "المجلس الأطلسي".
هذا التحول يمكن أن يؤدي إلى انخفاض الطلب على الدولار، وقد تتراجع الاستثمارات في الأصول الأميركية مثل سندات الخزانة، مع اتجاه الدول إلى تنويع محافظها لتشمل عملات أخرى.
ومع تقليص الدول لحيازاتها من الأصول المقوّمة بالدولار الأميركي، تتراجع قدرة الاحتياطي الفيدرالي على التأثير في الأوضاع المالية العالمية، الأمر الذي يؤثر على فعالية قرارات السياسة النقدية الأميركية.
التخلي عن استخدام الدولار له تداعيات جيوسياسية، إذ يمكن أن يُضعف من قوة الولايات المتحدة على الساحة الدولية، وتتراجع أيضاً أداة النفوذ التي تستخدمها الولايات المتحدة ضد الدول الأخرى. وتفقد واشنطن تدريجياً قدرتها على استخدام الدولار كأداة دبلوماسية أو كسلاح اقتصادي.
كما أن الفراغ الذي قد ينشأ حال حدوث ذلك، لن يمر وقت طويل قبل أن تملأه قوى جيوسياسية طامحة. وبالتالي فإن الحفاظ على مركزية الدولار لا يرتبط فقط بالاقتصاد، بل يُعدّ ركيزة أساسية في حماية الأمن القومي للولايات المتحدة واستمرار دورها القيادي على الساحة الدولية، حسب الدراسة.
يمكن أن تؤدي مبادرات التخلي عن الدولار إلى ضغوط تضخمية محتملة في الولايات المتحدة. فمع انخفاض الطلب على الدولار الأميركي، قد يزداد المعروض منه في الأسواق العالمية، مما يؤدي إلى تراجع قيمته. وقد يسهم هذا الانخفاض في رفع أسعار الواردات، الأمر الذي يؤدي بدوره إلى تعزيز الضغوط التضخمية داخل الولايات المتحدة، مما ينعكس سلباً على القوة الشرائية للمستهلكين واستقرار الاقتصاد بشكل عام.