رغم ما يتمتع به
لبنان من تنوّع جغرافي خلاب، وتراث ثقافي غني، وخبرة طويلة في مجال الضيافة، يجد القطاع الفندقي نفسه اليوم في مواجهة أزمة وجودية قد تهدد استمراريته كمكوّن أساسي من مكونات الاقتصاد اللبناني. فالفنادق التي لطالما شكّلت العمود الفقري للسياحة
اللبنانية، تحوّلت في السنوات الأخيرة إلى ضحية مباشرة لانهيار البنى التحتية، وتقلّبات الاقتصاد، وغياب السياسات الداعمة.
كهرباء لا تأتي... ومولدات تلتهم الأرباح
في دولة فقدت السيطرة على قطاع الكهرباء، بات تأمين
التيار مهمة خاصة، يتحمّلها أصحاب الفنادق على نفقتهم. وتشير التقديرات إلى أن ما يقارب 35% من دخل الفنادق يُنفق حاليًا على توليد الكهرباء الخاصة، أي أن أكثر من ثلث الإيرادات يُستهلك فقط لإضاءة الغرف وتكييف الهواء وتشغيل المصاعد، في بلدٍ كانت فيه "الإقامة الفاخرة" مرادفًا للخدمة اللبنانية.
هذا الاستنزاف المالي لا يسمح للفنادق بالقيام بأي شكل من أشكال التطوير أو الترميم أو حتى الحفاظ على الجودة التشغيلية المطلوبة، ما يضعها أمام معادلة قاسية: إما الصمود بخسائر، أو التراجع التدريجي في مستوى الخدمة، أو الانسحاب المؤقت من السوق.
الحركة السياحية الوافدة إلى لبنان لا تزال حيوية نسبيًا، خاصة من المغتربين وبعض الجنسيات العربية، لكنّها حركة موسمية وغير منتظمة، ولا تلبّي تطلعات المؤسسات الفندقية التي تحتاج إلى إشغال مستدام. فالمشكلة لم تعد في غياب السياح، بل في غياب الروافد الأساسية التي تُشجّعهم على القدوم طوال العام، وفي طليعتها الفعاليات الفنية والمهرجانات الثقافية، التي أثبتت في العقود الماضية أنها وقود الموسم الفندقي بامتياز.
ويؤكد سامر
الموسى، أحد أصحاب الفنادق لـ"
لبنان24"، بنبرة لا تخلو من مرارة: "لا نفتقر إلى الحرفية ولا إلى العملاء المحتملين. ما ينقصنا هو سياسة. خطة واضحة تعيد إدراج الفنادق في صلب القرار الاقتصادي، لا كرفاهية موسمية، بل كقطاع حيوي يوفَر فرص عمل ويدرّ العملة الصعبة".
أضاف الموسى:" المؤشرات تنذر بالخطر. إذ بدأت بعض الفنادق فعليًا بتقليص نشاطها، أو تقليص عدد الغرف العاملة، في محاولة للحدّ من الاستهلاك الكهربائي والتكاليف التشغيلية. كما تشهد بعض المناطق السياحية تقلصًا في عدد الحجوزات في غير مواسم الذروة، ما ينعكس سلبًا على
الدورة الاقتصادية المرتبطة بالفنادق: من المطاعم وشركات النقل، إلى مراكز التسوق والمرافق الترفيهي".
تابع:" والمقلق أن هذا التراجع قد لا يكون مؤقتًا. فكل شهر إقفال إضافي يخلق فجوة يصعب تعويضها لاحقًا، ويؤدي إلى خسارة كوادر مدرّبة وسمعة بُنيت عبر عقود"..
الحلول: من الدعم المباشر إلى الشراكة الثقافية
الحل لا يكمن فقط في دعم مالي تقليدي، بل في رؤية استراتيجية تعيد الفنادق إلى قلب الحياة الاقتصادية. فالمطلوب اليوم:
- تحفيز الاستثمارات الصغيرة والمتوسطة في القطاع الفندقي، خصوصًا في المناطق الداخلية.
- إعادة تفعيل دور
وزارة السياحة كمنسق بين الجهات المانحة والقطاع الخاص.
- دعم إنتاج الكهرباء البديلة ضمن الفنادق عبر إعفاءات ضريبية أو تمويلات خضراء.
- توسيع خارطة المهرجانات لتشمل كل الأشهر والمناطق، وليس فقط
بيروت ومهرجانات الصيف الكبرى.
المفارقة أن الطلب على لبنان لا يزال موجودًا. من
الخليج إلى
أوروبا، ومن المغتربين إلى عشاق الطابع الشرقي
الغربي للبلاد، ما زال اسم لبنان يحظى بجاذبية سياحية، لكنّ البنية التحتية لا تواكب هذا الطلب. فإذا بقيت الفنادق تُعاني بمفردها، فإنها قد تفقد قدرتها على الحفاظ على هوية الضيافة اللبنانية الفريدة، تلك التي جعلت بيروت تُوصف يومًا بأنها "
باريس الشرق".
في ظل كل ذلك، فإن إنقاذ القطاع الفندقي لا يُعدّ ترفًا اقتصاديًا، بل ضرورة وطنية لإعادة بناء صورة لبنان في عيون العالم. فحين تُغلق أبواب الفنادق، تُطفأ معها نوافذ الأمل، وتُقفل الطرقات أمام دورة اقتصادية كان يمكن أن تعيد ضخ الحياة في جسد الوطن المنهك.