أظهرت الحرب العدوانيّة الإسرائيليّة على
لبنان حجم الانكشاف الهائل على مستوى الأمن الرقمي، استباح خلالها العدو الفضاء السيبراني في محاكاةِ أقرب إلى الخيال العلمي، محقّقًا خرقًا امنيًّا هو الأكبر من نوعه من خلال تفجير أجهزة "بيجر" المحمولة،وما تلاه من اغتيالات. لكن على رغم ضخامة الخروقات الأمنيّة ربطًا بالحرب التي لا زالت قائمة، إلّا أنّ الأمن الرقمي في لبنان لم يكن محميًّا قبل تلك المواجهة، بدليل توالي الهجمات الرقميّة التي استهدفت المؤسسات والمرافق والمواطنين على مدى السنوات الماضية. منها اختراق أمن
المطار وبث رسائل "تحريضيّة" عبر اللوحة المخصصة لمواعيد الذهاب والإياب. اختراقات عديدة حصلت عام 2012، حيث تعرّض ستة عشرة موقعًا إلكترونيًّا تابعًا للإدارات الرسميّة للقرصنة، على يد جماعة تعرف بـ"ارفع صوتك".
الجرائم الالكترونية قاتلة
ليس الإختراقات الرقميّة والبيانات المكشوفة وحدها من تهدّد أمن الأفراد والمؤسسات، بل هناك الجرائم الإلكترونيّة، التي لا تقل خطورة وتأخذ أشكالًا مختلفة، تتجاوز قرصنة البيانات الشخصيّة، إلى ابتزاز سيبراني. وفي مثال على ذلك، هزّت حادثة أليمة بلدة ريفيّة مجاورة لبلدتي، قبل سنوات قليلة، حين قرر شاب بعمر المراهقة أن يضع حدًّا لمضايقات وملاحقات تعرّض لها من خلف حاسوبه الخاص، فالشاب الذي استجاب لتعارف إلكتروني، لم يكن يدرك أن خلف تلك الفتاة الجميلة عصابة إلكترونيّة، ابتزّته طويلًا، مهددة بنشر صور له مخلّة بالآداب في حال لم يستجب لشروطها التي لا تنتهي، لم يتحمل حجم الضغوط، فأنهى حياته، تاركًا جروحًا لا تندمل في قلوب أهله وأصدقائه. تلك الحادثة التي زلزت كيان أهالي القرية وكلّ من سمع بها، لم تكن الجريمة الإلكترونيّة الوحيدة، بل سبقها وتلاها جرائم كثيرة بأشكال مختلفة، على سبيل المثال، الحادثة المأسويّة التي حصلت قبل أشهر قليلة بوفاة طفل حاول تنفيذ تحدي "One Bite" الذي انتشر سريعاً عبر "تيك توك" والذي يتطلّب إدخال كميّة كبيرة من الطعام دفعة واحدة في وقت قصير.
نقابة المعلوماتية والتكنولوجيا ترفع الصوت: الخطر كبير والتصدي متاح
لسنا بحاجة إلى دراسات لتبيان أداء لبنان على مستوى الأمن الرقمي، فواقعنا الرقمي يثبت انكشافًا كبيرًا. عام 2019 أُطلقت الاستراتيجيّة الوطنيّة اللبنانيّة للأمن السيبراني، لكن على أرض الواقع بقي الفضاء السيبراني مستباحًا، من هنا تبدو الحاجة ملحّة لتطوير رؤية استراتيجيّة متكاملة للأمن السيبراني،يقول نقيب المعلوماتيّة والتكنولوجيا
جورج خويري في حديث لـ "
لبنان 24" سائلًا عن مدى جهوزيّة لبنان لحماية داتا المعلومات"قرار حماية الأمن السيبراني غائب على مستوى الدولة، وليس هناك من وعي لخطورة الموضوع، علمًا أنّ القانون رقم 81 لسنة 2018 بشأن المعاملات الإلكترونيّة والبيانات الشخصيّة، يفرض وجود شخص متخصّص في حماية المعلومات في كلّ مؤسسة رسمية وفي كلّ بلدية".
خويري: لمعايير موحّدة لدى كل الأجهزة
وفق مقاربة خويري الحماية الرقميّة لا تتجزأ، تبدأ من العائلة مرورًا بالعمل وصولًا إلى الأمن القومي الوطني على مستوى أجهزة الدولة كافة "هذه الحماية يجب أن تكون مبنيّة وفق أسس ومعايير عالميّة معترف بها وموحَّدة بين كافة
الأجهزة الأمنية، وأن يكون هناك تكامل وتنسيق وتشبيك فيما بين أجهزة الدولة، كي لا يحصل الخرق من أيّ جهة، خصوصا إذا ما ذهبنا إلى اعتماد الرقم الوطني الموحّد. هذا هو هدف مؤتمر المعلوماتية والسيبرانيةLebtech 2025 بنسخته خامسة، الذي عقدناه يومي السبت والأحد برعاية رئيس الجمهورية
العماد جوزاف عون".
التوعية تنقذ الأفراد ودور كبير لوسائل الإعلام
أيّ استراتيجية لتعزيز الأمن الوطني السيبراني لن تكون فعّالة، ما لم تترافق مع حملات توعية، تستهدف الأفراد لتعزيز الوعيالجماعي "هناك غياب للشق التوعوي، بحيث يتوجب على وزارة الإعلام القيام بحملة توعية عبر
وسائل الإعلام بقصد توعية المواطنين حيال خطورة هذه الخروقات، وإرشادهم لتفادي قرصنة بياناتهم".
عن دورهم النقابي في ذلك يقول خويري "نحن نقوم بدورات توعية على نطاق الشركات والأفراد حول الأمن السيبراني، ونحن جاهزون على مستوى نقابة المعلوماتيّة والتكنولوجيا للتعاون مع وسائل الإعلام لعرض حلقات توعية، وقد طرحنا ذلك ونقلنا الأمر إلى وزارة التنمية الإداريّة في عهد
الوزيرة السابقة، وجددنا أمام الوزير الحالي استعدادنا للقيام بحملة توعية شاملة، وهنا أشير إلى أنّ هناك من يطلب منّا بدلًا ماديًّا لقاء إطلالة عبر التلفزيون بقصد التوعية. ونحن نجدّد استعدادنا كنقابة وكجمعيات أن نقدّم التوعية للجامعات والمدارس وللمؤسسات مجانًا. كما أنّ هناك شركات عالميّة رائدة أبدت استعدادها لتقديم برامج تدريبية مجانًا، وفي ذلك أهميّة كبيرة لجهة نشر الوعي في المجتمع، بحيث يفيد بيئتَه كلّ شخص خضع للتدريب، وهكذا دواليك، إذ أنّ الأمن لا يتحقق بليلة وضحاها".
خويري يرى أنّ حماية الأمن السيبراني في لبنان تحتاج إلى قرار وإلى اعتماد استراتيجية منفصلة عن المشاكل السياسية، وهناك الكثير من المؤسسات الدوليّة مستعدة للتمويل، خصوصًا أنّ الحماية هنا ليست منفعة خاصة بل عامة.
الكومبيوتر ليس آمنا والحل بتلزيم شركات عالمية
أجهزة الكومبيوتر في لبنان ليست محميّة، والقصة لا تنتهي بشراء برامج لمكافحة الفيروسات Antivirus على الأجهزة الإلكترونية، بل هي عمليّة تحضيريّة تبدأ منذ أن يتمّ فتح جهاز الكومبيوتر، تُستكمل خلال مرحلة العمل على أجهزة الكومبيوتر وأجهزة الهواتف الذكية، وتُواكب لاحقًا في عمليّة متواصلة لا تتوقف، يلفت خويري "ومن الضروري إرشاد المواطن لكيفية حماية نفسه وعائلته من الخروقات عبر جهاز الكومبيوتر، الذي يستخدمه
في المنزل ومن ثم ينقله إلى مركز عمله، وهنا يصبح الخرق مضاعفًا".
توفير الأمن السيبراني ليست مهمة مستحيلة وفق نقيب المعلوماتية والتكنولوجيا "على النطاق التقني لا بدّ من العمل مع شركات عالمية معروفة لتأمين Software معترف بها عالميًّا، والعمل ضمن معايير ملزمة للجميع. الأمر ليس مكلفًا، بل يمكن يمكن تحقيق ذلك عن طريق bot عبر تلزيم شركة عالميّة موثوقة لمدة زمنيّة معينة، في مقابل اشتراك شهري لا يتعدى الدولار الواحد، والمواطن لن يمانع من ذلك لحماية بياناته وعائلته. البداية من هنا،والأمن السيبراني حلقة متكاملة وعمليّة تشاركيّة ومتواصلة".
في عصر الذكاء الاصطناعي تبدّل مفهوم الحماية، لم تعد الحدود الجغرافيّة بين الدول المكان الوحيد للتهريب والتسلل إلى الأوطان وتخريبها، بل باتت الشاشة التي ترافق كل منّا في يومياته، سواء شاشات أجهزة الهواتف الذكية أو الحواسيب، أخطر بكثير،والاستهدافات العدوانيّة أبرز دليل، انطلاقًا من هنا لم يعد الأمن السيبراني خيارًا، بل بات واجبًا وطنيًا سياديًّا يضاهي في أهميته الأمن التقليدي، ويتكاملان لتحقيق الأمن القومي.