بعيدًا عن ملف "سحب السلاح" الذي يبدو "الشغل الشاغل" هذه الأيام للسياسيين، على وقع الضغوط الأميركية الدبلوماسية والإسرائيلية العسكرية، خطفت جلسة مجلس النواب الأخيرة الأنظار، بوصفها استثنائيةً في الشكل والمضمون، بعدما شهدت رفع الحصانة عن النائب
جورج بوشكيان، وزير الصناعة السابق، تمهيدًا لملاحقته قضائيًا مع التأكيد على قرينة البراءة حتى إثبات الإدانة.
وبالتوازي مع هذه الخطوة، سجّل مجلس النواب خطوة أخرى في سجلّ "المحاسبة"، إن صحّ التعبير، من خلال إحالة ثلاثة وزراء سابقين للاتصالات إلى لجنة تحقيق برلمانية، على خلفية جرائم هدر مال عام، وذلك بعد الاستماع إليهم، علمًا أنّ "
التيار الوطني الحر" صوّت ضدّ الإحالة، باعتبار أنّ أحد الوزراء وهو نقولا صحناوي محسوب عليه، على الرغم من أنّ الأخير أكد أنّ ضميره مرتاح، وقال إنّه جاهز لإسقاط حصانته، لو كان قادرًا على ذلك.
ولأنّ هاتين الخطوتين "الجريئتين" ربما، تأتيان بعد خطوة قضائية أفضت إلى توقيف وزير الاقتصاد السابق أمين سلام في مرحلة سابقة، فإنّهما تفتحان الباب أمام تساؤلات كثيرة حول ما إذا كانت هذه الإجراءات بداية لمرحلة جديدة من المساءلة السياسية التي لطالما غابت عن دولة القانون والمؤسسات، أم أنها مجرد فصل آخر من المسرحيات السياسية التي اعتاد اللبنانيون عليها، في وقت لا يزال فيه غياب المحاسبة الحقيقية يطغى على المشهد السياسي اللبناني؟
خطوات نحو المحاسبة... ولكن؟
من الناحية الشكلية، قد تُعتبر الخطوات المتخذة من قبل مجلس النواب، سواء فيما يخص رفع حصانة بوشكيان أو إحالة وزراء الاتصالات السابقين إلى لجنة التحقيق، بداية خطوة مهمة نحو تكريس مبدأ المحاسبة السياسية في
لبنان، وربما مؤشرًا إلى رغبة حقيقية في محاسبة المسؤولين عن الفساد. إلا أنه من المبكر تحديد ما إذا كانت هذه الإجراءات ستفضي إلى نتائج ملموسة، خصوصًا بالنظر إلى العوائق التي قد تواجه هذه الخطوات.
فعلى سبيل المثال، غادر بوشكيان لبنان قبل صدور القرار إلى كندا، مما قد يعقّد إمكانية توقيفه حتى في حال صدور مذكرة توقيف غيابية بحقه لكونه يتمتع بالجنسية الكندية. علاوة على ذلك، لا يمكن لأيّ طرف أن يضمن أن لجنة التحقيق البرلمانية ستتمكن من الوصول إلى نتائج حقيقية، خاصة إذا كانت لجنة التحقيق تتألف من نواب ينتمون إلى الأحزاب السياسية الكبيرة، ما قد يعكس مصالح مشتركة قد تُعرقل المسار القضائي.
إلى جانب ذلك، تبقى هذه الخطوات محط نقاش واسع بين الأطراف السياسية والمراقبين، ففيما يعتبرها البعض بداية حقيقية لمحاربة الفساد، يراها آخرون مجرد إجراءات تهدف إلى تحسين صورة السلطة، قبيل الاستحقاقات
الانتخابية المقبلة، من دون أن تكون لها تأثيرات فعلية على مستوى مكافحة الفساد الشامل في الدولة. ويُستدل على ذلك من خلال النظر إلى قضايا كبيرة مثل انفجار مرفأ
بيروت، التي لا تزال بلا محاسبة فعلية بعد خمس
سنوات من وقوعها.
مكافحة الفساد في لبنان.. ملف مستعصٍ؟!
رغم هذه الخطوات التي قد تكون دالة، تبقى هناك عقبات كبيرة تحول دون تحقيق نتائج فعالة في مسار محاربة الفساد في لبنان. فبالرغم من أهمية الإجراءات البرلمانية، لا يزال التشكيك قائمًا حول قدرتها على الوصول إلى نتائج ملموسة، خاصة مع استمرارية تحكم الأحزاب الكبرى في مفاصل السلطة، بل ثمّة من يعتبرها مجرد إجراءات تجميلية تهدف إلى إخماد الغضب الشعبي دون أن تؤدي إلى محاسبة فعلية.
هذا الواقع يعكس تعقيدات أزلية في نظام الحكم اللبناني، حيث غياب المحاسبة يبقى سمة بارزة، فالحديث عن مكافحة الفساد ليس بالأمر الجديد، وقد شهدت البلاد محاولات سابقة، لكنها فشلت في تحقيق نتائج حقيقية، وهو ما يرجح أن يتكرّر طالما أنّ الأحزاب الكبرى تبقى بعيدة عن المحاسبة الحقيقية. فبالرغم من وجود خطوات رمزية، تبقى القوى السياسية الكبرى محصنة من الملاحقة القضائية بفضل تحالفاتها السياسية والقدرة على حماية أعضائها.
وإذا كان هناك من يسأل عن مدى "استقلالية"
القضاء اللبناني للمضيّ إلى الأمام في هذا المسار، ثمّة من يرى أنّ الفساد في لبنان ليس مجرد مشكلة محلية؛ فهو مرتبط بقضايا إقليمية ودولية معقدة تتداخل فيها المصالح السياسية، مما يجعل من الصعب إجراء إصلاحات جذرية.وفي هذا الإطار، لا يمكن اعتبار الخطوات المتخذة سوى بداية لمشروع طويل ومعقد، إذ إن التغيير الفعلي يتطلب تصديًا للعديد من العوامل الهيكلية التي تمنع تحقيق العدالة، مثل غياب الاستقلالية القضائية واستمرار الحصانة التي يتمتع بها السياسيون من مختلف الأطياف.
يمكن القول إن ما جرى في الجلسة النيابية الأخيرة لا يعدو كونه خطوة أولى في مسار طويل ومعقد لمكافحة الفساد في لبنان. لكن على الرغم من النوايا الظاهرة التي قد تحملها هذه الإجراءات، إلا أن الطريق أمام المساءلة الحقيقية ما زال طويلاً ومحفوفًا بالتعقيدات، فالتغيير الفعليّ يبدأ بالتصدّي لعوامل الخلل في النظام، ومنها غياب الاستقلالية القضائية، والحصانة التي يتمتع بها الفاسدون من قلب المنظومة، وهي حصانة تتجاوز بكثير تلك التي يضمنها
الدستور للنواب.