Advertisement

لبنان

سطوح بيروت.. حياة أخرى فوق المدينة

مايا دعيبس طه - Maya Daibess Taha

|
Lebanon 24
11-09-2025 | 04:30
A-
A+
Doc-P-1415476-638931885960843087.jpg
Doc-P-1415476-638931885960843087.jpg photos 0
facebook
facebook
facebook
telegram
Messenger
Messenger
A+
A-
facebook
facebook
facebook
telegram
Messenger
Messenger
في بيروت، المدينة المكتظة بالضجيج والتعب، تنبض الحياة في أماكن غير متوقعة. ليست المقاهي ولا الساحات هي المتنفس الوحيد لأهلها، بل السطوح، تلك المساحات الإسمنتية التي تعلو المباني القديمة والجديدة على حد سواء.
Advertisement

هناك، فوق الزحمة اليومية، يكتشف المقيمون هنا عالمًا آخر أكثر بساطة ودفئًا. ومع ضيق الشقق وانقطاع الكهرباء المتكرر، يصبح السطح امتدادًا طبيعيًا للبيت.

في المساء، تُكنس الأرضية بعناية، تُرتب الكراسي البلاستيكية، وتُحضر القهوة أو إبريق الشاي. كل سطح يتحول إلى غرفة جلوس مفتوحة على السماء، وإلى ساحة لقاء للجيران والعائلات. الليل في بيروت أكثر هدوءًا من النهار، لذلك يُفضّل كثيرون صعود الدرج نحو الأعلى ليجدوا فيه فسحة صغيرة من الحرية والهدوء.
 


من فوق، تسمع القهقهات تتناثر من بناية إلى أخرى. أصوات ضحك عالية، صخب أطفال يركضون، موسيقى تتسرب من تلفاز أو من هاتف محمول. كل سطح يبدو عالمًا قائماً بذاته، لكنه في الوقت نفسه متصل بسطوح أخرى، فتتشابك الأصوات والقصص كأنها نسيج واحد يغطي المدينة. هناك، يتناسى الناس تعب النهار، هموم المعيشة، وانقطاع التيار الكهربائي. يكفي كرسي بلاستيكي وضحكة صافية لتُستعاد لحظة فرح وسط العتمة.

لكن السطوح ليست فقط مكانًا للسهر والضحك. منذ اللجوء الأول إلى السطح، لجأ كثير من سكان بيروت إلى اختيار مساحة خضراء هناك لخلق عالم مختلف عما يرونه من الشرفات والشبابيك.

وفي السنوات الأخيرة، بدأ بعضهم بزراعة الأعشاب والخضار فوق أسطح منازلهم. وفي أوانٍ بلاستيكية تنبت أوراق النعناع والبقدونس وحبّات البندورة. صحيح أنّ هذه الزراعة لا تكفي لإطعام العائلة، لكنها تكفي لإعادة الحياة إلى مشهد يغلب عليه الإسمنت. بعض الناس يعتبرون هذه الأحواض الصغيرة "حديقة شخصية" وسط مدينة تفتقر إلى المساحات الخضراء، ووسيلة للتواصل مع الطبيعة ولو على نحو رمزي.
 


قصة أم علي تجسّد هذا الشعور. وُلدت في قرية جنوبية، عاشت عمرها محاطة بالتراب والحقول، حتى أنها نادرًا ما احتاجت إلى سوق الخضار. الحرب نزعت بيتها من الأرض، فاضطرت إلى النزوح إلى بيروت. تقول: "الأرض كانت حياتي. لم أكن أتخيّل يومًا أن أعيش بعيدة عنها."

لكنها تكيّفت، على طريقتها الخاصة. حين وجدت نفسها في شقة بالطابق الأخير، قررت أن تجعل من السطح امتدادًا لحقولها السابقة. ابنها أحضر لها ترابًا وأحواضًا صغيرة، فزرعت فيها "صحرة" الصيف الموسمية. لم يكن الأمر لتأمين الاكتفاء الذاتي، بل ليمنحها إحساسًا بأنها ما زالت على تماس مع الأرض التي تركتها.

بابتسامة تضيف: "هذه المحاصيل ليست للأكل، هذه روح. بتخلّيني حسّ إني بعدني عايشة متل قبل."

أم علي ليست وحدها. بيروت مليئة بقصص مشابهة: عائلات تحوّل السطوح إلى مجالس مفتوحة، شباب ينصبون أرجوحة أو يعلّقون أضواء صغيرة، نساء يجدن في الزراعة علاجًا يوميًا من ضيق المدينة.

السطح، بهذا المعنى، ليس مساحة فارغة، بل هو حياة بديلة تُصنع فوق العمران. في مدينة تفتقر إلى الحدائق العامة نوعا ما، وتزدحم شوارعها بالسيارات والضوضاء، تتحول السطوح إلى ساحات خاصة للراحة والتلاقي.

هي مقاهي مجانية تحت السماء، حدائق صغيرة في أوانٍ متواضعة، وملجأ من تعب النهار وضيق البيوت. والأهم أنها مرآة لروح المقيمين: قدرتهم الدائمة على خلق حياة موازية، وإيجاد لحظات من الفرح حتى فوق أكثر المساحات قسوة.

سطوح بيروت ليست مجرد إسمنت فوق بنايات قديمة. هي حكايات تُروى في الليل، أصوات ضحك تتناقلها الريح، وبقع خضراء صغيرة تذكّر الناس أن الأمل يمكن أن ينبت حتى في أصغر وعاء. هناك، على ارتفاع بضعة طوابق، يكتب "البيروتيون" رواية يومية عن التكيّف والصمود، عن بحثهم الدائم عن فسحة من السكينة، وعن إصرارهم على أن يبقى للحياة نكهة، رغم كل ما يثقلها.
مواضيع ذات صلة
تابع
Advertisement

أخبارنا عبر بريدك الالكتروني

إشترك

مايا دعيبس طه - Maya Daibess Taha