ثمة تناقض فاضح بين ما هو معلن وما هو مضمر بالنسبة إلى الاستحقاق الانتخابي. فما يُقال في الاعلام من كلام ترويجي عن ضرورة إجراء هذه الانتخابات في موعدها الدستوري يتناقض مع ما يُحكى في الصالونات السياسية الضيقة وفي الغرف والاجتماعات المغلقة. فهذا التناقض يخفي في خلفياته رغبة مبيّتة لدى أغلبية القوى السياسية بتأجيلها والعمل بالوسائل الممكنة لإيجاد "تخريجة" معينة لتمديد ولاية المجلس الحالي، مع ما فيه من ملابسات وحيثيات متناقضة في المضمون وفي الشكل.
وإذا أراد أي محلّل للمعطيات الموضوعية أن يفنّد هذه الرغبة لدى أغلبية الكتل النيابية، التي يتشكّل منها المجلس النيابي الحالي، إن لم يقولوا كل هذه الكتل مجتمعة خشية الوقوع في خطأ التقدير والتعميم، لاستخلصوا الكثير من الاستنتاجات التحليلية غير المستندة بالطبع إلى معلومات حسّية. ومن بين هذه الاستنتاجات والأكثرها قريبة إلى الواقع ما يتمّ تداوله عبر المواقع الحزبية الداخلية لعدد من الأحزاب والتيارات السياسية عن عدم الاستعداد التام لخوض هذه المغامرة وسط الظروف غير الطبيعية، التي يمرّ بها
لبنان، والتي لا تسمح لبعض هذه الأحزاب بأن يكون لديها في
المستقبل القريب ما كان لديها سابقًا من أحجام فضفاضة بعض الشيء، حتى ولو لم تكن هذه الأحجام معبّرة عن حقيقة الوضع الشعبي لهذه الأحزاب والتيارات.
وما يؤكد حقيقة هذا الواقع الراهن هو التباطؤ المتعمّد في عدم المضي قدمًا في بتّ ما يؤمن سلامة هذه الانتخابات في موعدها الدستوري. وإذا كان التعميم، الذي أصدره كل من
وزير الداخلية والخارجية في ما خصّ تسجيل اللبنانيين المغتربين من ضمن مهلة شهر ونصف شهر تقريبًا، يوحي بعكس الأجواء التي يروجّها بعض الأحزاب المأزومة سياسيًا وشعبيًا، والتي تعمل وفق معايير مزدوجة الأهداف على طريقة "رجل في البور ورجل في الفلاحة"، فإن البعض يقول بأن هذا التعميم ليس سوى حفظ ماء الوجه، فيما الحقيقة أن لا أحد من المغتربين يبدي حماسة للمشاركة في هذه الانتخابات ما لم تُعدَّل المادة 112.
في المقابل فإن بعض الأحزاب أو بعض المستقلين يعملون على قاعدة أن الانتخابات حاصلة اليوم قبل الغد، وهي تنصرف بكليتها إلى تعزيز حضورها الشعبي من خلال اللقاءات المكّثفة مع عدد كبير من الهيئات الاختيارية ورؤساء وأعضاء بلديات منتقاة وفق دراسات موضعية للواقع الجغرافي في مختلف المناطق
اللبنانية، حتى تلك المناطق، التي لا تُعتبر تاريخيًا مؤيدة لنهج هذه الأحزاب ولخطّها السياسي.
وبحسب بعض المعطيات فإن المطالبين بإشراك المغتربين في عملية التصويت للمئة والثمانية وعشرين نائبًا بدأوا يتصرّفون مع الواقع الاغترابي الانتخابي على أساس أن ما كُتب بحبر الرئيس
نبيه بري قد كتب، وأن لا عودة إلى الوراء إلاّ إذا تمكّن هؤلاء المطالبون بالحق الانتخابي الاغترابي من جمع 65 صوتًا ملتزمين بالتصويت لصالح تعديل المادة 112.
المطلعون على الاتصالات الجارية على قدم وساق لتأمين هذا الحاصل من الأصوات الترجيحية يستبعدون الوصول إلى عتبة النصف زائد واحدًا، وذلك بفعل عدم استعداد عدد من النواب المحايدين للدخول مع "الثنائي الشيعي"، ومع الرئيس
بري بالتحديد في سجالات لن تصب لمصلحتهم الانتخابية، خصوصًا أن بعضًا منهم ليس له حيثية شعبية في الوسط الاغترابي، وبالتالي فهو لن يكون مستفيدًا كثيرًا من أصوات المغتربين لتغيير ما في المشهدية المجلسية في استحقاق ربيع الـ 2025.
في الاعتقاد السائد أن المسؤولين اللبنانيين، رسميين وغير رسميين، والمقصرّين بكل شيء تقريبًا، لن يستطيعوا لوحدهم الخروج من نفق المادة 112، وغيرها من التعديلات الضرورية، خصوصًا أن رئيس الحكومة لا يزال ينأى بنفسه وبالحكومة عن التدّخل لحسم "المعركة"، راميًا الكرة في ملعب مجلس النواب المعروف توجهه العام، ولكن في الوقت ذاته ممنوع عليه أن تكون له كلمة الفصل النهائية.
فـ "التقصير" الداخلي ليس جديدًا. وهذا ما حصل على مدى سنتين وثلاثة أشهر من تعطيل الاستحقاق الرئاسي. ولولا التدخلات الخارجية لكان لبنان لا يزال يعيش في ظل حكم الفراغ القاتل. وقد يكون لتدّخل "الكبار" كلمة الفصل في الاستحقاق النيابي، خصوصًا أن
سوريا قد استطاعت أن تخوض معركة ديمقراطية، وهي الطالعة من أزمات كبرى، في حين قد يُسجّل على لبنان عدم تمكّنه من إجراء الانتخابات في موعدها الدستوري ومن دون تأخير يوم واحد إلاّ في حال واحدة، وهي إذا تمادت
إسرائيل في تحدّي الإرادة الدولية وقرّرت توسيع عملياتها في الجنوب وصولًا إلى حدود نهر الليطاني، وحالت دون تمكّن أهالي تلك المنطقة الجغرافية الواسعة من أداء واجبهم الانتخابي بحرية تامة.
وهذا السيناريو غير مستبعد في رأي بعض الأوساط الديبلوماسية، التي رأت في اول تقرير شهري لقيادة الجيش، والذي تضمن إشارات واضحة عن بطء في تنفيذ خطة "الحصرية" بحذافيرها، وذلك بسبب العراقيل
الإسرائيلية المتمثلة بخروقاتها اليومية لقرار وقف إطلاق النار.