أمّا وقد انتهت فعاليّات قمّة سان بطرسبورغ الأخيرة بين الرئيسين فلاديمير بوتين ورجب طيّب أردوغان بالتأكيد على رغبة الطرفين في فتح "صفحةٍ جديدةٍ" في ملفّ العلاقات الروسيّة ـ التركيّة، بما يضمن توفير الأجواء اللازمة لاستئناف العمل في مشاريعهما الاستراتيجيّة المشتركة، فإنّ الولايات المتّحدة الأميركيّة، وعلى خلفيّة ارتيابها غير المعلَن ممّا قد ينجم عن هذا التطوّر اللافت من تداعياتٍ يمكن أن تمسّ بجوهر مصالحها الحيويّة في أماكنَ مختلفةٍ من العالم، بما فيها منطقة الشرق الأوسط، بدأت بوضع الخطط الكفيلة بالتعاطي مع أيّ ارتداداتٍ مرتقَبةٍ على هذا الصعيد، وخصوصًا إذا ما صدقت التسريبات التي تحدّثت مؤخّرًا عن أنّ الرئيس التركيّ جادٌّ إلى أبعد الحدود في اعتزامه العمل على "معاقبة" الأميركيّين وحلفائهم، ليس بسبب ما يُشاع عن دورهم المشبوه في المحاولة الانقلابيّة الفاشلة التي استهدفت إدارته الشهر الماضي وحسب، وإنّما بسبب عدم وفائهم بأيٍّ من الالتزامات التي سبق لهم وأن وعدوه بها منذ تعيينه رئيسًا للوزراء في عهد سلفه عبد الله غُل عام 2002، بدءًا من تعهّدهم بتحويل بلاده إلى عقدةِ غازٍ عالميّةٍ في إطار مشروع "خطّ أنابيب نابوكو" الذي لم يبصر النور بعد، مرورًا بكلّ ما ترافق مع غزو العراق عام 2003 من تهميشٍ متعمَّدٍ للدور التركيّ على الساحة العراقيّة لصالح الدورين الكورديّ والإيرانيّ، ووصولًا إلى معمعةِ تداعياتِ ما اتُّفق على تسميته "ربيع العرب" المتواصلةِ منذ عام 2011 ولغاية اليوم.
وإذا كان الرئيس بوتين قد اختار بدوره اللحظة الأكثر تمايزًا من حيث رمزيّة توقيتها لاستضافة الرئيس أردوغان في سان بطرسبورغ، وخصوصًا من جهة تزامنها مع قيام الأميركيّين بمحاولةِ الالتفافِ على اتّفاق كيري – لافروف بشأن تسوية الأزمة السوريّة، وبالشكل الذي بدا وكأنّه يشبه "خديعةَ حربٍ" تحمل في طيّاتها بصماتٍ أسخريوطيّةً واضحةً وفاضحةً في آنٍ معًا، حسب ما تجلّى من خلال "تمكين" الفصائل المسلّحة للمعارضة السوريّة من كسر الحصار المفروض على حلب، ولو إلى حين، فإنّ التوقّعات المتوافرة حاليًّا تشير إلى أنّ أولى بوادر التقارب الروسيّ – التركيّ الأخير، وعلى رغم ما تمّ الإعلان عنه بشأن عدم توافق الطرفين حول مستقبل الرئيس بشّار الأسد، لا بدّ وأن تَظهر عمليًّا من خلال تكثيف الجهود العسكريّة الرامية إلى حسم الأوضاع الميدانيّة على الساحة السوريّة، وذلك من أجل توفير الأرضيّة الأمثل لإعادة إطلاق العمليّة السياسيّة مجدّدًا في جنيف، بما يمكن أن يتناسق مع معلوماتٍ كنّا قد أشرنا إليها في الحادي عشر من شهر حزيران الماضي في سياق مقال بعنوان: "أيلول.. وطرفه المبلول بالتسويات والحلول".
ولعلّ اللافت هنا هو أنّ الأميركيّين كانوا قد استبقوا موعد انعقاد القمّة الروسيّة – التركيّة بالإقدام على نقل مسرح عمليّاتهم العسكريّة في سوريا إلى المناطق الجنوبيّة الواقعة عند تخوم الحدود الأردنيّة، وذلك في خطوةٍ مفاجئةٍ، وإنْ كان من السابق للأوان التكهّن بما إذا كانت تنمّ عن رغبةٍ في التراجعِ أم في إعادةِ خلط الأوراق، إلّا أنّها تشكّل في مختلف الأحوال دليلًا على إدراكهم المسبق للمدى الذي يمكن أن تصل إليه النتائج الميدانيّة لتلاقي المصالح بين موسكو وأنقرة في الأزمة السوريّة، الأمر الذي استوجب دفعهم على إدخال هذا العنصر المفاجىء في استراتيجيّةِ حربهم على الإرهاب.
بين سوريا وأوكرانيا
لا شكّ في أنّ الأميركيّين يدركون أيضًا أنّ آفاق تلاقي المصالح الروسيّة – التركيّة، في هذه اللحظة المتمايزة الآنفة الذكر، لن تقتصر على التعاون والتنسيق في الأمور ذاتِ الصلةِ بالملفّ السوريّ وحده، بل ستطال ملفّاتٍ ذاتِ أبعادٍ إقليميّةٍ ودوليّةٍ أخرى، وعلى رأسها مستقبل الوجود الأميركيّ في مياه البحر الأسود، ومدى رغبة تركيا في المحافظة على عضويّتها في الأسرة الأطلسيّة.
وفي هذا السياق، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ بعض التوقّعات السابقة التي كانت قد تحدّثت عن أنّ الولايات المتّحدة سوف تستبسل في الدفاع عن آخر قلاعها في أوكرانيا، من أجل ضمان استمرار نفاذها إلى مياه البحر الأسود، إذا ما حالت ظروف علاقاتها المتوتّرة مع تركيا دون ذلك، لم تعد أكثر أو أقلّ من توقّعاتٍ توشك على أن تصبح جزءًا من الماضي، ولا سيّما أنّ المبعوث الأميركيّ الخاصّ لشؤون الطاقة آموس هوكشتاين، كان قد حذّر الأسبوع الماضي من إمكانيّة انهيار الاقتصاد الأوكرانيّ برمّته في حال تنفيذ مشروع خطّ أنابيب "الدفق الشماليّ 2" لنقل الغاز الروسيّ عبر قاع بحر البلطيق إلى أوروبا، الأمر الذي يشي باحتمال حدوث تغييرات جوهريّة في مسار الأحداث على الساحة الأوكرانيّة، ليس لأنّ الولايات المتّحدة ودول الاتّحاد الأوروبيّ لن تكون قادرة على تحمّل عبء النهوض باقتصاد هذه الدولة وحسب، وإنّما لأنّ كافّة التوقّعات تشير إلى أنّ الأوكرانيّين سيعودون عاجلًا أم آجلًا إلى الحضن الروسيّ، وذلك احترامًا للعلاقات الوجدانيّة التي ظلّت تجمعهم مع الروس على مدى عقودٍ وعهودٍ من الزمان، ناهيك عن أنّ قمّة بوتين – أردوغان أوّل من أمس الثلاثاء، كانت قد أسفرت عن وضع مشروع خطّ "الدفق التركيّ" على سكّة التنفيذ، ليحلّ مكان خطّ "الدفق الأوكرانيّ" الذي يُفترض أن تنتهي فترة صلاحيّة العقد الموقّع بشأنه بين موسكو وكييف عام 2019.
الحسابات الأطلسيّة
أمّا في ما يتعلّق بالشق الأطلسيّ، فقد يكون من المفيد التذكير هنا بأنّ هذه ليست المرّة الأولى التي تتمكن فيها إدارة الرئيس بوتين من إحداث هزّةٍ قويّةٍ داخل دول الحلف، نظرًا لما ينطوي على ذلك التذكير من أهمّيّةٍ بالغةٍ على صعيد استقراء وتحديد طبيعة وملامح السلوك المستقبليّ الأميركيّ، إذا ما أظهرت التطوّرات المرتقَبة أنّ تركيا عازمةٌ فعلًا على "معاقبة" الولايات المتّحدة وحلفائها الأوروبيّين، عن طريق العمل على "تفعيل" حضورها في الفضاءات الاستراتيجيّة الروسيّة، على حساب عضويّتها في الأسرة الأطلسيّة، ولا سيّما أنّ صور التأييد الذي حظي به وزير الدفاع الروسيّ الأسبق إيغور سيرجييف داخل مقر الحلف في بروكسيل عام 2001 ما زالت حاضرة في الأذهان.
ففي ربيع ذلك العام، وبينما كانت الخلافات على أشدّها بين موسكو وواشنطن بشأن ما سُميّ وقتذاك مشروع "منظومة الدفاع القوميّة ضدّ خطر الصواريخ الباليستيّة" الذي ورثه الرئيس جورج دبليو بوش عن سلفه بيل كلينتون، بادر الوزير سيرجييف بطرح فكرة إقامةِ منظومةِ دفاعٍ أوروبيّةٍ عوضًا عن المنظومة الأميركيّة، معتمدًا في فكرته على ما حظيت به وجهة نظر الرئيس بوتين من دعمٍ أوروبيٍّ وأطلسيٍّ واضح، وخصوصًا من جهة اعتبار أنّ المشروع الأميركيّ يشكّل انتهاكًا لاتّفاقيّة "إي بي إم" الموقّعة عام 1972 بين الولايات المتّحدة والاتّحاد السوفييتيّ، ومن شأنه أن يُطلق سباقًا دوليًّا جديدًا على التسلّح.
وما حدث إثر ذلك هو أنّ صيف ذلك العام لم يكد يطلّ، حتّى شعر الأميركيّون بأنّهم أصبحوا شبه وحيدين في مواجهة الموقف الروسيّ الرافض لإقامة منظومتهم المثيرة للجدل، فإذا بالرئيس بوش يسارع بالتوجّه إلى بريطانيا لكي يفتح منها نافذةً لمشروعه على بقيّة الدول الأوروبيّة والأطلسيّة، وإذا برئيس الوزراء البريطانيّ في حينه طوني بلير يتلقّف الفرصة، ويُبرم مع ضيفه ما عُرف وقتذاك بـ "صفقة الشراكة الاستراتيجيّة الأميركيّة ـ البريطانيّة"، وذلك في أعقاب اجتماعٍ مطوّلٍ عقد بينهما في بلدة "تشيكرز"، واستغرق زهاء الثلاث ساعات، وكنتُ من بين الصحافيّين الذين قاموا بتغطية وقائعه.
وإذا كانت هذه الشراكة قد أنجبت لاحقًا حربين متتاليتين، الأولى على الإرهاب الذي أصبح أقوى من الماضي في أفغانستان، والثانية على أسلحة الدمار الشامل التي لم يتمّ العثور عليها بعد في العراق، فإنّ هاتين الحربين اللتين قُدِّر لي أيضًا تغطية وقائعهما، لم يكن من الممكن للشراكة الأميركيّة – البريطانيّة وحدها أن تشكّل المنصّة الملائمة لإطلاقهما، لو لم تتحوّل "نقمةُ" هجمات الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتّحدة إلى "نعمةٍ" مكّنت الأميركيّين من إعادة تشكيل الارتصافات الدوليّة في العالم لصالحهم، ولو إلى حين، الأمر الذي أنقذهم من وحدتهم، وأعاد إليهم شركاءهم الضائعين.
وخلاصة القول هنا تتمثّل في أنّ التاريخ الأميركيّ في مجال العلاقات مع الحلفاء والشركاء، يبدو وكأنّه يعيد نفسه في الوقت الراهن على خلفيّة التقارب الروسيّ – التركيّ من جهة، وكذلك على خلفيّة ما يُتوقّع أن يندرج في سياق الآتي الأعظم على صعيد التقارب الروسيّ ـ التركيّ ـ الإسرائيليّ المتبادَل من جهةٍ أخرى. فهل ستُسلّم الولايات المتّحدة يا ترى بخسارة حليفيْها الأساسيّيْن في الشرق الأوسط، أي تركيا وإسرائيل، لصالح غريمتها روسيا، وتقف مكتوفة الأيدي أمام كلّ ما يحمله هذا التحوّل من نذائر على مصالحها في المنطقة، أم إنّها ستلجأ، مثل العادة، إلى استخدام "عقيدة الصدمة" التي اشتهرت بها، لكي تعيد الارتصافات الدوليّة لصالحها من جديد؟
سؤالٌ.. لا شكّ في أنّ ملامح الإجابة عليه ستبدأ بالظهور من حلب، أو من الموصل، أو من أطلالهما معًا.. بينما ستكون العين الروسيّة والتركيّة، هذه المرّة، تراقب عن كثب، وتقف دون أدنى شكٍّ بالمرصاد.
(جمال دملج - كاتب متخصّص في الشؤون الروسيّة)