تبدو العملية العسكرية
الإسرائيلية في مدينة غزة وكأنها تتجاوز البعد العسكري المباشر، لتقترب من مشروع لإعادة تشكيل الواقع الجغرافي والديموغرافي للقطاع. فمع القصف الكثيف، وتكرار أوامر الإخلاء، واستهداف البنية التحتية، يواجه المدنيون خيارًا وحيدًا هو النزوح جنوبًا، في ظروف تفتقر إلى الأمان والممرات الإنسانية.
القانون الدولي الإنساني يعرّف التهجير القسري كجريمة حرب أثناء النزاعات المسلحة، وجريمة ضد الإنسانية إذا كان واسع النطاق أو ممنهجًا. وفي غزة، تتجمع مؤشرات واضحة على ممارسات تنطبق على هذا الوصف، من بينها منع وصول المساعدات وتدمير المرافق المدنية.
مصدر
دبلوماسي أوروبي أوضح لـ"إرم نيوز" أن ما يجري "يحمل سمات التهجير القسري، خصوصًا أن المدنيين لا يُمنحون خيارًا حقيقيًا للبقاء ولا ضمانات بالعودة"، مشيرًا إلى مخاوف من أن الهدف هو "إفراغ شمال غزة من سكانه أو جعله غير صالح للسكن"، وأضاف أن غياب جهة فلسطينية موحدة للتفاوض يترك المدنيين بلا حماية سياسية، ما يسهل تمرير سياسات النزوح. وحذّر من "سابقة خطيرة تُشرعن التهجير كأداة عسكرية" في حال غياب مسارات تحقيق جدية في المحكمة الجنائية الدولية أو مجلس حقوق الإنسان.
كما أكدت مصادر أممية لـ"إرم نيوز" أن أي أوامر إسرائيلية تطالب سكان مدينة مكتظة بالمغادرة "من دون ممرات آمنة، تتعارض مع التزامات
إسرائيل القانونية". وحذّرت من أن النزوح المؤقت قد يتحوّل إلى تغيير ديموغرافي دائم، خاصة مع استنفاد القدرة الاستيعابية في الجنوب.
وبحسب المصادر، فإن المرافق الصحية المتبقية تعمل بأقل من 25% من طاقتها، ما يهدد بانهيار المنظومة الصحية وانتشار الأمراض المعدية. وأشارت إلى أن النساء والأطفال يشكلون أكثر من 70% من
النازحين، ويعيشون في مراكز مكتظة تفتقر إلى المياه والتغذية.
كما لفتت المصادر إلى أن القيود على دخول بعثات المراقبة الإنسانية تجعل توثيق الانتهاكات شبه مستحيل، الأمر الذي يفاقم انعدام الشفافية ويزيد المخاوف من انتهاكات غير مرصودة.
بدوره، رأى المحلل السياسي محمود أبو عدس أن الهجوم البري
الإسرائيلي يهدف إلى "إعادة تشكيل المجال المدني لمدينة غزة"، من خلال إفراغ الأحياء بالقصف والأوامر بالإخلاء، وهو ما يندرج في إطار ما يسميه بـ إدارة الكثافة السكانية.
وأوضح أن هذه الاستراتيجية تنظر إلى السكان باعتبارهم "كتلة جماعية" يُراد تفتيتها ونقلها، بما يقلل من الضغط الديموغرافي في مناطق معينة، وهو ما يجعل النزوح الجماعي جزءًا من التكتيك العسكري.
واعتبر أبو عدس أن هذه السياسة لا تغيّر طبيعة الحرب فقط، بل تُعيد رسم الخريطة الاجتماعية للمدينة، وتحول العودة إلى المنازل إلى ملف سياسي وأمني معقّد. وأشار إلى أن استهداف البنى المدنية – من طرق مواصلات وكهرباء ومياه ومدارس ومستشفيات – يجعل البيئة غير قابلة للحياة، ما يفرض النزوح كخيار وحيد.
وختم بالقول إن استمرار النزوح بهذا الشكل سيعقّد أي عملية إعادة إعمار مستقبلية، إذ قد تُصنّف المناطق المفرّغة كمناطق عازلة أو أمنية، ما يحول دون عودة السكان ويحوّل ملف الإعمار إلى ورقة تفاوضية بدلًا من كونه حقًا إنسانيًا. (ارم نيوز)