تتجه العلاقات بين
الولايات المتحدة وفنزويلا إلى مرحلة شديدة الخطورة، مع ارتفاع واضح في احتمالات الانزلاق نحو تصعيد عسكري في منطقة البحر الكاريبي. فالتشدد الأميركي المتصاعد ضد حكومة نيكولاس مادورو، والتكثيف اللافت للوجود العسكري الأميركي في محيط فنزويلا، إلى جانب الانكماش المستمر في الدعم الروسي والصيني لكاراكاس، كلها عوامل تُعيد رسم موازين الأمن في نصف
الكرة الغربي.
الشرارة الأخيرة في هذه المواجهة كانت "المطالبة العلنية برحيل مادورو خلال مهلة محددة"، بالتوازي مع إعلان الرئيس الأميركي
دونالد ترامب أن "المجال الجوي فوق فنزويلا وحولها يجب التعامل معه كمنطقة مغلقة". هذا الطرح يفتح الباب واسعًا أمام تفسيره كـ"تفويض مسبق" لعمليات جوية محتملة متى رأت
واشنطن أنها ضرورية، خصوصًا بعدما عززت الولايات المتحدة انتشارها العسكري عبر نشر تشكيلات بحرية ضاربة في البحر الكاريبي، مدعومة بطائرات دورية واستطلاع، في أكبر حشد من هذا النوع منذ ثمانينيات القرن الماضي. الرسالة إلى كاراكاس ودول أميركا اللاتينية واضحة: "الضغط العسكري بات جزءًا من أدوات تغيير السلطة في فنزويلا".
في المقابل، رد نظام مادورو بتعبئة وحدات النخبة العسكرية، ورفع منسوب التعبئة الإعلامية، واتخاذ إجراءات تطال الأجانب. تُروّج السلطات لرواية "التحصين الوطني في مواجهة عدوان خارجي"، فيما عُلِّقت أعمال البرلمان بذريعة "دراسة الإجراءات الأميركية". هذا المناخ يوفّر غطاءً لتوسيع صلاحيات الأجهزة الأمنية، ويُضفي دلالة خاصة على "احتجاز عدد من المواطنين
الأميركيين" قبل أيام، وهي خطوة تُقارب عمليًا استخدام الأجانب كورقة ضغط سياسي، وتزيد في الوقت نفسه من تعقيد أي مسار دبلوماسي لاحتواء الأزمة.
بالتوازي، يشهد حضور موسكو وبكين في الساحة الفنزويلية تراجعًا تدريجيًا ذي دلالات استراتيجية. فروسيا، التي كانت لسنوات شريكًا سياسيًا وعسكريًا رئيسيًا لكاراكاس، بدأت "إجلاء مواطنيها عبر رحلات خاصة" وإعادة توجيه الوجهات السياحية إلى دول أخرى مثل كوبا، فيما تُعلّق شركات روسية خاصة نشاطها في فنزويلا متذرعة بمخاطر المجال الجوي والوضع السياسي. حتى الآن، يقتصر الموقف الروسي على تصريحات خطابية، من دون مؤشرات على استعداد لتحمّل كلفة مواجهة مباشرة مع واشنطن في منطقة تُعد تقليديًا ضمن مساحة نفوذها.
الصين بدورها تتصرف بمنطق "المخاطر المحسوبة". فرغم انكشافها المالي على فنزويلا، تتعامل بكين مع الأزمة بوصفها ملفًا حساسًا لا يصل إلى مستوى فتح مواجهة جديدة مع الولايات المتحدة. يقتصر الموقف على تصريحات حذرة، من دون استعداد لاتخاذ خطوات سياسية أو عسكرية يمكن تفسيرها كـ"حماية مباشرة" لمادورو تحت الضغط الأميركي. بالنسبة لكاراكاس، هذه الإشارات تعني عمليًا أن ركائز الدعم الخارجي التي راهنت عليها بدأت تتآكل.
على الأرض، تتكرّس عزلة فنزويلا مع تضييق الخناق على مجالها الجوي وروابطها بالعالم. فقد علّقت شركات طيران عدة رحلاتها إلى كاراكاس بعد تحذيرات من سلطات طيران أميركية وأوروبية بشأن مخاطر متزايدة على سلامة الطيران المدني في منطقة النشاط العسكري. وردّت هيئة الطيران المدني الفنزويلية "INAC" بإلغاء تصاريح تشغيل عدد من الشركات واتهامها بـ"المساس بالسيادة الفنزويلية"، ما أدى إلى شلل متزايد في خطوط الربط الجوي مع
أوروبا وأميركا اللاتينية وشركات مثل "طيران أوروبا" و"ألترا" وغيرها. هذا الانكماش يُصعّب إجلاء الرعايا الأجانب وتحركات الدبلوماسيين، ويُعمّق الانقطاع الاقتصادي والدبلوماسي للبلاد.
في موازاة ذلك، أصدرت دول مثل الولايات المتحدة وكندا وأستراليا والنرويج والسويد وغيرها "تحذيرات سفر" إلى فنزويلا، فيما نبّهت
وزارة الخارجية البولندية إلى "مخاطر أمنية متزايدة وزعزعة استقرار المجال الجوي واحتمال اضطراب حركة الطيران". بعض البعثات الدبلوماسية خفّضت نشاطها أو سحبت جزءًا من طاقمها، في مؤشر إضافي على دخول فنزويلا عمليًا في مرحلة عزلة دولية عميقة قد تتفاقم مع أي تصعيد جديد.
مجمل هذه المعطيات يضيّق هامش المناورة أمام الحلول التفاوضية. واشنطن تُصعّد الضغط العسكري والسياسي، وكاراكاس تردّ بتشديد القبضة الأمنية وخطاب "الخطر الخارجي"، فيما تتراجع موسكو وبكين خطوة إلى الخلف، وتزداد عزلة النظام على المستويين السياسي والاقتصادي. في بيئة كهذه، "يرتفع خطر الحوادث العسكرية غير المقصودة بصورة استثنائية"، سواء في البحر أو في الأجواء، حيث يمكن لسوء تقدير واحد أو خطأ في تفسير نوايا الطرف الآخر أن يُشعل مواجهة أوسع بكلفة غير محسوبة.
الأسابيع المقبلة ستُظهر ما إذا كان هذا التصعيد سيبقى ضمن لعبة الضغط المتبادل أم سيتحوّل إلى صدام مفتوح. كثيرٌ من الإجابة يتوقف على كيفية إدارة واشنطن وكاراكاس لحافة الهاوية، وعلى القرار النهائي لكلّ من
روسيا والصين: هل تستمران في الاكتفاء بموقف "المراقب البعيد"، أم تعيدان خلط الأوراق في أحد أخطر ملفات الأمن في نصف الكرة الغربي خلال القرن الحادي والعشرين؟ (defence24)