تصفّح بدون إعلانات واقرأ المقالات الحصرية
|
Advertisement

إقتصاد

أوروبا على أعتاب تحوّل وجودي.. ماذا ينتظرها في 2026؟

Lebanon 24
28-12-2025 | 12:00
A-
A+
Doc-P-1460889-639025253660159595.jpg
Doc-P-1460889-639025253660159595.jpg photos 0
facebook
facebook
facebook
telegram
Messenger
Messenger
A+
A-
facebook
facebook
facebook
telegram
Messenger
Messenger


كتب موقع "إرم نيوز": في خريف عام 2025، ترسّخ إدراك مقلق لدى القادة الأوروبيين لم يعد من الممكن تجاهله، فالقارة العجوز لا تواجه تراجعًا اقتصاديًا عابرًا أو أزمة سياسية موقتة، بل تقف على أعتاب تحوّل وجودي عميق قد يعيد رسم ملامح مستقبلها بأكمله.

عقود من الاعتماد على رأس المال السياسي والاقتصادي الموروث من حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية خلقت وهماً بالاستقرار الذاتي، لكن هذا الوهم تبدد تماماً مع اقتراب 2026.

ولطالما شكّل التحالف الفرنسي-الألماني العمود الفقري للتكامل الأوروبي منذ تأسيس الجماعة الأوروبية للفحم والصلب في الخمسينيات. لكن هذا المحور يمر الآن بأسوأ أزماته منذ عقود. 

في باريس، خصصت ميزانية 2026 مبلغ 6.7 مليار يورو للدفاع، بزيادة استثمارية قدرها 3.5 مليار يورو عن المخصصات السابقة لتحديث القوات المسلحة وسد الفجوات في مخزون الذخيرة والطائرات المسيرة وقدرات الحرب الإلكترونية. 

لكن هذه الزيادة، رغم ضرورتها، تأتي في وقت يعاني فيه الاقتصاد الفرنسي من قيود مالية خانقة حدت من دور باريس ليقتصر على التعبير عن رؤى كبرى لأوروبا من دون امتلاك الموارد لتنفيذها.

الأزمة السياسية الفرنسية غير المسبوقة، مع جمود حكومي متكرر وصعود اليمين المتطرف بقيادة حزب التجمع الوطني، تعني أن فرنسا عالقة في فوضى مؤسسية تجعل من الصعب عليها الحفاظ على مصداقيتها وتأثيرها الدبلوماسي. من الصعب تصديق أن الدبلوماسية الأوروبية ستستمر كالمعتاد في ظل هذه الاضطرابات.

على الجانب الآخر من الراين، تخضع ألمانيا لتحول استراتيجي عميق وغير مسبوق. بعد عقود من التحفظ العسكري الشديد، والانضباط المالي الصارم الذي حوّل "الفرملة السوداء" إلى مبدأ دستوري، والاعتماد شبه الكامل على الولايات المتحدة للضمانات الأمنية، تغادر ألمانيا الآن موقفها الدفاعي الذي اتخذته منذ نهاية الحرب الباردة. 

في غضون أسابيع قليلة، قلبت برلين عقائدها الدستورية واحتضنت دوراً قيادياً كانت ترفضه بشدة طوال عقود. لكن التحدي الحقيقي يكمن في تحويل هذا التحول إلى سياسات مستدامة، خاصة مع مشهد سياسي مفتت كشفت عنه الانتخابات الفيدرالية الأخيرة.

في السنوات الأخيرة، اكتسبت الحركات والأحزاب القومية اليمينية المتطرفة وزناً سياسياً غير مسبوق عبر القارة. في فرنسا، يواصل التجمع الوطني تقدمه في استطلاعات الرأي. في ألمانيا، أصبح حزب البديل من أجل ألمانيا قوة لا يمكن تجاهلها رغم محاولات عزله سياسياً. 

أما في هولندا وإيطاليا، دخلت أحزاب يمينية متطرفة أو شعبوية في الحكومات أو أصبحت قريبة جداً منها. في شرق أوروبا، من بولندا إلى المجر، تتعزز سيطرة حكومات تضع السيادة الوطنية فوق كل اعتبار.

وما يجمع هذه الأحزاب والحركات ليس مجرد الخطاب الشعبوي أو معاداة المهاجرين، بل رؤية جذرية مختلفة لمستقبل أوروبا: التأكيد على السيادة الوطنية المطلقة، والإصرار على الحفاظ على صنع القرار بالإجماع الذي يمنح كل دولة حق النقض (الفيتو)، ومبدأ أن القانون الوطني يجب أن يأخذ الأسبقية على القانون الأوروبي. هذه الرؤية تتعارض بشكل جوهري مع منطق التكامل العميق الذي قام عليه الاتحاد الأوروبي.

من الناحية السياسية، تتصدر الأحزاب اليمينية الشعبوية، غالباً بتعاطف واضح أو مستتر مع روسيا، استطلاعات الرأي في عام حافل بالانتخابات الكبرى عبر القارة. 

اقتصادياً، تجد الحكومات نفسها مقيدة بالنمو البطيء والتضخم العنيد وعدم اليقين في إمدادات الطاقة. عسكرياً، معظم الدول الأوروبية في بداية برامج إعادة التسليح فقط، بعد عقود من التقشف الدفاعي الذي ترك جيوشها ضعيفة ومتهالكة.

بينما يتحدث السياسيون الأوروبيون عن "السيادة الاستراتيجية" و"الاستقلالية"، تروي الأرقام الاقتصادية قصة مختلفة تماماً. وفقاً لتوقعات صندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي لعام 2026، من المتوقع أن يسجل الاتحاد الأوروبي معدل نمو بين 1.2% و1.5% فقط، بينما يستمر التضخم في التحليق بين 2.8% و3.2% في معظم دول منطقة اليورو. 

البطالة تبقى عند متوسط 6.5%، لكن هذا الرقم يخفي تفاوتاً كبيراً بين الشمال والجنوب: في إسبانيا تصل إلى 12%، بينما في ألمانيا تبقى عند 3.5%.

الصورة الأوسع أكثر قتامة. الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي يبلغ حوالي 17.2 تريليون دولار بنمو ضئيل، مقارنة بـ28.7 تريليون دولار للولايات المتحدة بنمو 2.4%، و19.4 تريليون دولار للصين بنمو 4.8%. الفجوة تتسع بشكل مقلق: حصة أوروبا من الاقتصاد العالمي تراجعت من 22% في 2010 إلى أقل من 15% في 2025. في الوقت الذي تركض فيه أمريكا والصين، تمشي أوروبا بخطوات مترددة.

كذلك أزمة الديون السيادية تلقي بظلالها الثقيلة على أي محاولة لزيادة الاستثمارات. إيطاليا تحمل نسبة دين إلى الناتج المحلي تبلغ 144%، فرنسا عند 111% بعد أن كسرت حاجز الـ3% عجز ميزانية، إسبانيا عند 108%، وحتى ألمانيا التي كانت مثالاً للانضباط المالي تواجه ضغوطاً هائلة لزيادة الإنفاق الدفاعي مع الحفاظ على التزاماتها الدستورية بتوازن الميزانية.

أحد أكبر التحديات التي تواجهها أوروبا في 2026 هو تحديد موقعها في عالم متعدد الأقطاب ومتصارع بشكل متزايد. من جهة، الصين هي الشريك التجاري الأكبر لأوروبا والمصدر الرئيسي للتكنولوجيا الرخيصة والمكونات الحرجة، من الألواح الشمسية إلى بطاريات السيارات الكهربائية إلى مكونات الطائرات المسيرة. لكن الصين أيضاً منافس استراتيجي يغرق الأسواق الأوروبية بمنتجات مدعومة ويهدد بتدمير صناعات أوروبية كاملة.

من جهة أخرى، العلاقة مع الولايات المتحدة، الحليف الأمني التقليدي، أصبحت أكثر تعقيداً وأقل قابلية للتنبؤ. سياسات "أمريكا أولاً" وتهديدات بتقليص الالتزامات الدفاعية في حلف الناتو تجبر أوروبا على إعادة التفكير في افتراضاتها الأمنية الأساسية. الضغوط الأمريكية على أوروبا لفك ارتباطها بالصين تصطدم مع الواقع الاقتصادي الأوروبي المعقد.

بريطانيا، رغم خروجها من الاتحاد الأوروبي، تظل لاعباً أمنياً مهماً في القارة. لكن دورها أصبح أكثر انتقائية وأقل قابلية للتنسيق المؤسسي. تركيا، الدولة العضو في الناتو والشريك المعقد، تلعب دوراً محورياً بين أوروبا والشرق الأوسط، وأصبحت قوة صاعدة في مجال الطائرات المسيرة العسكرية، مما يضيف طبقة أخرى من التعقيد للحسابات الأمنية الأوروبية.

اليوم، فقد مفهوم التكامل الأوروبي الكثير من زخمه وقبوله عبر مساحات واسعة من المجتمع وعالم الأعمال والطبقة السياسية. الجيل الذي عاش الحرب العالمية الثانية ورأى أوروبا الموحدة كضمانة ضد عودة الكارثة غادر تقريباً. 

الجيل الجديد لا يتذكر الحدود المغلقة والحروب الأهلية، ويأخذ السلام والرخاء كأمر مسلم به. في هذا السياق، يمكن لأوروبا المؤسسية أن تتفكك من الداخل، في مواجهة طبقة سياسية لم تعد تعرف إلى أين يجب أن يؤدي اتحاد أوروبا، وفي مواجهة مجتمعات أوروبية لا تريد قبول أو لا تفهم تأثير سياسة القوة الخام والقومية الشعبوية على تماسكها.

في أي وقت منذ الخمسينيات لم تكن الديناميكية الطاردة أقوى وأكثر وضوحاً من الآن. بينما تعمل المؤسسات والعمليات الأوروبية كالمعتاد على السطح، الأسس تتآكل تحت الأقدام بشكل متسارع. البريكست كان مجرد أول علامة واضحة، لكنه قد لا يكون الأخيرة.

السؤال الذي يحدد مصير أوروبا في 2026 بسيط في صياغته لكنه عميق ومعقد في إجابته: هل يمكن للقارة العجوز أن تتحول من إدارة الأزمات المتتالية بردود فعل متأخرة إلى بناء المستقبل بخطة واضحة ورؤية مشتركة، أم أنها ستستمر في التآكل البطيء من الداخل حتى تنهار الأسس تماماً وتتحول أوروبا الموحدة إلى مجرد ذكرى تاريخية؟
Advertisement
مواضيع ذات صلة
تابع
Advertisement

أخبارنا عبر بريدك الالكتروني

إشترك