كما هو ظاهر من خلال المشهدية السياسية والأمنية الحالية فإن
لبنان واقع بين مطرقة الاعتداءات
الإسرائيلية من جهة، وسندان استمرار رفض "
حزب الله" تسليم سلاحه إلى الدولة
اللبنانية من جهة ثانية، فيما يجول الموفدون الدوليون والعرب في
بيروت علّهم يوفقّون في تقريب وجهات النظر بين أطراف النزاع، التي تبدو حتى هذه الساعة متباعدة عن بعضها البعض مسافة تُقاس بالسنوات الضوئية، مع ما يرافق هذا الجو المشحون من تنافر داخلي بين مؤيدي بقاء السلاح في أيدي "الحزب"، وبين الذين يدعون إلى أن تكون الدولة هي الوحيدة القادرة على حماية أبنائها بسلاحها الشرعي من أي اعتداء من الخارج أو من شذاذ آفاق الداخل.
ومهما قيل بأن ما اتُخذ من قرارات حكومية في الجلسات الثلاث ليست ميثاقية بسبب غياب مكّون أساسي من مكونات النسيج اللبناني الطائفي عن هذه الجلسات، فإن ثمة من يقول بأن القرارات التي صدرت عن الحكومة ميثاقية مئة في المئة لأن الدولة قرّرت بذلك أن تستعيد دورها الأمني، وأن تحتكر السلاح. فالقرارات الحكومية اتُخذت بشبه اجماع لبناني يمثّل ما نسبته ثمانين في المئة من مجموع الشعب اللبناني، وبالتالي تكون هذه القرارات ميثاقية ولا غبار على ميثاقيتها. أمّا ما هو غير ميثاقي، ودائمًا وفق نظرية أهل الحكم، فهو أن تحتكر فئة لبنانية تمثّل ما نسبته التقديرية عشرين في المئة من اللبنانيين السلاح، وتصادر قرار الحرب والسلم، وتجرّ لبنان إلى حرب مساندة لم يكن له فيها لا ناقة ولا جمل، وذلك غصبًا عن إرادة أغلبية هؤلاء اللبنانيين، الذين أعلنوا منذ اليوم الأول رفضهم مبدأ "وحدة الساحات"، وحذّروا من مغبة ما يمكن أن تستجرّه هذه الحرب من مآسٍ وويلات. وهذا ما حصل بدءًا بحادث الغدر بتفجير "البيجيرات" ووصولًا إلى اغتيال السيدين حسن نصرالله وهاشم صفي الدين ومعظم قيادات الصفّ الأول في "
المقاومة الإسلامية"، ناهيك عن الدمار الذي لحق بقرى الحافة الجنوبية وفي الضاحية الجنوبية لبيروت وفي أكثر من منطقة
بقاعية.
فالمشهد اللبناني لم يعد محصوراً بالانقسامات الداخلية أو بلعبة المراوحة التي اعتاد عليها اللبنانيون منذ سنوات. فحضور الموفدين الدوليين إلى بيروت لم يعد بروتوكوليًا أو استعراضيًا. فجان إيف لودريان يأتي باسم فرنسا محمّلاً بتفويض أكثر وضوحًا، والموفد السعودي يزيد بن فرحان يحمل رسالة دعم مشروطة بإصلاحات والتزام بخطة الدولة، فيما تستعد مورغان أورتيغاس لزيارة بيروت في مؤشر إلى انخراط أميركي مباشر في هذا الملف. هو مثلث ديبلوماسي يعكس أن لبنان دخل في مرحلة جديدة من الرعاية الدولية والعربية، بما يتخطى البيانات التقليدية.
في الداخل، ثمة تحوّل لا يقل أهمية. الحكومة اللبنانية، وعلى لسان رئيسها نوتف سلام ، أعلنت أن لا عودة إلى الوراء، وأن خطة الجيش ستنفّذ بحذافيرها. للمرة الأولى منذ عام 2005، يتقدّم ملف السلاح إلى صدارة الموقف الرسمي كقرار تنفيذي لا مجرد مطلب سيادي. وهذا التطوّر يعيد الاعتبار إلى الجيش بوصفه المرجعية الوحيدة للأمن، ويضع "حزب الله" أمام واقع جديد لم يختبره من قبل (ضغط مزدوج من الداخل والخارج)، فيما
إسرائيل تواصل استهداف مواقع تقول إنها قواعد لـ "الحزب".
ولكن يبقى السؤال، الذي لن يجد سائله جوابًا شافيًا ومقنعًا عنه: على ماذا يمكن للبنان أن يراهن؟ إلا أن ما يتبادر إلى ذهن المجيب، حتى ولو كان مجهولًا، هو جواب يمكن تلخيصه بثلاثة عناصر: أولاً، الدعم الدولي المتنامي الذي يمكن أن يتحوّل إلى شبكة حماية سياسية واقتصادية إذا أحسنت الحكومة استثماره. ثانياً، خطة الجيش التي تشكّل الخارطة الوحيدة القابلة للتطبيق لإعادة حصرية السلاح إلى الدولة. ثالثاً، توازن إقليمي قد يفرض على جميع الأطراف الاعتراف بأن لا مصلحة لأحد في بقاء لبنان ساحة نزاع مفتوحة.
إن ما تغيّر بين الأمس واليوم هو الانتقال من إدارة الأزمة إلى محاولة فرض حلول. لكن نجاح هذا التحوّل لن يقاس بعدد الموفدين إلى بيروت، بل بقدرة الدولة اللبنانية على الصمود أمام الضغوط الداخلية والخارجية، واستعداد المجتمع الدولي لترجمة وعوده إلى أفعال، على رغم أن إسرائيل تمارس أبشع أشكال الابتزاز الدموي: قصف ممنهج تحت عنوان محاربة "حزب الله"، بينما الهدف الحقيقي هو إبقاء لبنان ضعيفاً وممزقاً، محروماً من أي فرصة للنهوض.
فالوقت، في رأي أكثر من مراقب سياسي، لم يعد متاحاً للمساومات. فبين مطرقة إسرائيل وسندان "حزب الله" على جميع اللبنانيين، وبالأخصّ "حزب الله"، أن يعودوا إلى دولتهم، التي تبقى لهم الحصن الأمين والملجأ الآمن الوحيد.