على مدى ثلاثة أيام عاش اللبنانيون بمختلف طوائفهم وأحزابهم أجمل أيام حياتهم، لأن زيارة الحبر الأعظم قداسة البابا لاوون أعطتهم فرصة بأن ما بعد الليل سيشرق نور الصباح، وأن بعد كل طلعة هناك نزلة، وبعد كل عسر هناك يسر، وبعد كل هذا اليأس لا بدّ من أن يكون الأمل باليوم الآتي أكبر وإلاّ يصبح العيش صعبًا لولا هذه الفسحة من الأمل الباقي، والذي حملته معها هذه الزيارة، التي يمكن أن تُختصر بعنوان عريض ووحيد "زيارة الأمل الباقي".
ولكن هذا الأمل، الذي حمله معه البابا للبنان، يبقى نسبيًا ما دام اللبنانيون يعيشون همّ ما هو آتٍ، وما سيكون عليه الوضع الأمني في ظل التهديدات
الإسرائيلية، التي لم تتوقف يومًا، وفي ظل الضغوطات التي يتعرض لها أركان السلطة، وفي ظل تعثّر خطوات "حصرية السلاح"، وفي ظل عدم وضوح الرؤية بالنسبة إلى اليوم الذي
سيلي هذه الزيارة التاريخية لرأس الكنيسة، وفي ظل الانقسام السياسي، عموديًا وأفقيًا، حيال مصير الانتخابات النيابية.
فما هو آتٍ وما هو منتظر بعد هذه الزيارة البابوية التاريخية قد يكون أشدّ وقعًا بعد هذه الأيام الثلاثة الفائقة للوصف لناحية معانيها ورمزيتها، خصوصًا أن الحديث عن الاستعدادات الإسرائيلية لشنّ حرب جديدة على
لبنان لم يغب حتى خلال هذه الزيارة. فهل ستزول "سكرة" الأيام الثلاثة لتأتي بعدها "فكرة" الأيام الآتية، التي يُتوقع أن تكون قاسية جدًّا. وهذا ما فهمه المسؤولون اللبنانيون، الذين التقوا
وزير الخارجية المصرية، الذي لم يخفِ في تصريحاته العلنية مخاوفه مما يمكن أن تقدم عليه
إسرائيل. وهذا ما يفسّر بأن ما قاله داخل الجدران الأربعة، سواء في القصر
الجمهوري أو في "عين التينة" أو في السراي الحكومي"، قد يكون أكثر واقعية مما صرّح به خارج هذه الجدران.
ولأن لبنان بلد المفارقات الدائمة، بلد الفرح الممزوج بالوجع، فإن السؤال الذي يفرض نفسه بقوة مع انطفاء آخر شمعة في ساحات الاحتفال هو عمّا ينتظر لبنان في اليوم التالي؟
هل سيبقى صدى كلمات البابا يرتطم بجدران السياسة المقفلة، أم سيتحوّل إلى مسار فعلٍ، ولو متواضع، يحمي ما تبقّى من هذا الوطن؟
ما بعد الزيارة ليس كما قبلها. فالمشهد الداخلي، وإن بدا مُجمَّلًا خلال الأيام الثلاثة، يعود ليواجه واقعه القاسي: دولة هشّة تتخبّط في مؤسساتها، طبقة سياسية منقسمة حتى على تفسير الأزمات، اقتصاد مترنّح، وحدود تقف على فوهة بركان، وأجهزة ديبلوماسية تستشعر حركة غير مطمئنة في كواليس العواصم.
اليوم التالي لزيارة البابا سيكون امتحانًا للنوايا، امتحانًا من نوع مختلف. فهل يستطيع اللبنانيون أن يلتقطوا تلك الشرارة الروحية التي بثّها الحبر الأعظم ليعيدوا وصل ما انقطع بين بعضهم البعض؟ وهل تستطيع السلطة أن تستثمر هذا الزخم المعنوي لتفتح نافذة حوار، ولو صغيرة، تُجنّب البلاد قطار الانهيارات المتتالية؟ أم أنّ زيارة البابا ستبقى مجرّد محطة مؤثرة وجدانيًا، لكن غير قادرة على وقف عجلة التدهور؟
في الواقع، إن ما يُحاك للبنان في غرف القرار الدولية ليس تفصيلًا. وليس صدفة أن تتكثّف التحذيرات الديبلوماسية في توقيت الزيارة. فالرسائل كانت واضحة: إسرائيل تُبقي يدها على الزناد، لا رادع لديها إلا الحسابات الكبرى، ولا انشغالاتها
الانتخابية، ولا الاستنكارات الدولية، فيما لبنان، الذي ما زال يفتّش عن "استراتيجية دفاعية" ضائعة منذ عقود، يدرك أنّ أي خطأ في التقدير قد يفتح الباب لسيناريوهات كارثية، خصوصًا في ظل سخونة الجبهة الجنوبية وتراجع الضمانات التقليدية.
أما في الداخل، فالمشهد لا يطمئن. فالانتخابات النيابية تغرق في مستقبل غامض، ومعلّقة بين تعديلات متأخرة وتشنجات طائفية ومخاوف من فراغ طويل. وفي هذا التوقيت الدقيق تبقى مسألة" حصرية السلاح" عقدة العقد، ونقطة اشتباك مستمرة بين من يعتبرها أساس السيادة ومن يراها ضمانة وجود في وجه إسرائيل.
لذلك، فإن ما بعد زيارة البابا هو مرحلة حساسة جدًا، كأن البلاد تقف أمام امتحان دقيق بين فرصتين: فرصة أن تُترجم الزيارة دفعًا نحو الاستقرار، أو فرصة أن تبقى مجرّد استراحة قصيرة قبل العاصفة.
قد تُكتب الأيام المقبلة بخطوط عريضة ثلاثة:
-ارتفاع منسوب القلق الأمني، خصوصًا مع تقارير متزايدة عن نية إسرائيل بتغيير قواعد الاشتباك.
- ضغوطات دولية أكبر على أهل السلطة، سواء في ملف الإصلاحات أو في ملف السلاح.
- محاولات داخلية لتوظيف الزيارة سياسيًا، ربما لفتح أبواب تفاهمات جديدة أو لتعزيز مواقع تفاوضية.
لكن بين كل هذه الاحتمالات يبقى شيء واحد ثابت، وهو أن الشعب اللبناني الذي خرج ليستقبل البابا بعفوية، بدمعته وابتسامته معًا، لا يزال يبحث عن بارقة أمل.
هو يعرف أن البابا لم يحمل معه عصًا سحرية، لكنه حمل إليه ما فقده طويلًا، وهو إمكانية أن يكون
المستقبل أقل قسوة من الحاضر.
أما السؤال الأخير، الذي ربما سيُطرح أكثر من أي وقت مضى، فهو: هل ستبقى زيارة البابا مجرّد ذكرى جميلة محفورة في الوجدان، أم ستتحوّل إلى نقطة تحوّل حقيقية في مسار بلد اعتاد العيش على حافة الخطر؟
الجواب رهن الأيام المقبلة، ورهن قدرة اللبنانيين على ألّا يضيّعوا من جديد فرصة أخرى للتلاقي، حتى لا تتحوّل "سكرة" الزيارة إلى "فكرة" موجعة.