يعود وثائقي "سفّاح التاكسي" على منصة "شاهد" ليفتح خزنةً ثقيلة في ذاكرة بيروت: عام 2011، حين بثّ شقيقان الرعب ليلًا عبر استهداف سائقي الأجرة وركّابهم بالسرقة والقتل. العمل يروي سلسلة الجرائم ويضع الجمهور داخل مزاج مدينةٍ كانت تُجرَّب فيها حدود الأمان وحدود الخوف معًا. لغةٌ بصريّة، سردٌ سريع، وشهودٌ يملأون الفراغ بين ملفّ التحقيق وحياة الضحايا؛ كل ذلك يجعل الوثائقي مدخلًا مناسبًا لإعادة طرح السؤال الأثقل: ماذا عن أمن اليوم؟ وما الذي تفصح عنه الأرقام خلف ضجيج الأخبار اليومية؟
من ذاكرة الجريمة إلى حاضرها: ماذا تقول الوقائع؟
على الأرض، تُظهر المعطيات الموثّقة صورة مركّبة. فبحسب
قوى الأمن الداخلي، أدّت خطّة أمنية قصيرة في أيار2024 إلى تراجع إجمالي الجرائم المُبلَّغ عنها بنسبة 22% خلال أسابيع التنفيذ، بالتوازي مع زيادة التوقيفات بنسبة 36%، ما يشكل مؤشّرا على أثر الردع حين تتوافر الموارد والانتشار. لكنّ المقارنة الأوسع تكشف مفارقة: الجرائم اليوم ما زالت أعلى من مستويات ما قبل الانهيار، وإن كانت أدنى من ذروة 2021–2022. أي أن المنحنى يتراجع عن القمّة، لكنه لم يعد إلى "الطبيعي" بعد. هنا تتجاور "الأمنيات" و"الإحصاءات" في مشهد واحد: شعورٌ شعبيّ بعدم الأمان مع أرقامٍ تحاول طمأنة الجمهور بأن القبضة الأمنية تلتقط أنفاسها.
وفي اليوميات، لا تغيب
أخبار المداهمات والتوقيفات لِشبكات سرقةٍ وسلبٍ ونشلٍ وتجارة مخدّرات.. هذه التفاصيل لا تصنع عناوين كبرى دائمًا، لكنها تقيس النبض الحقيقي للشارع. أين تُنصب الحواجز؟ ما الذي يتغيّر في أساليب السلب؟ هل تتراجع سرقات السيارات؟ أسئلة ميدانية تُجيب عنها نشرات القوى الأمنية تباعًا، وتدلّ على أن إدارة الأمن باتت اشتباكًا يوميًا طويل النفس.
الانتحار: الوجه الخفيّ لأزمةٍ طويلة
إذا كانت الجرائم "تُرى" وتُوثَّق سريعًا، فإن الانتحار يختبئ غالبًا خلف وصمةٍ وثقافةِ صمت. أرقام 2023 شكّلت جرس إنذار (168 حالة وفق بيانات)، قبل أن تُظهر مؤشرات 2024 تراجعًا إلى نحو 129 حالة.. انخفاضٌ مُشجّع لكنه لا ينفي هشاشة المشهد. الأهم أنّ
وزارة الصحة تُقرّ، في استراتيجيتها الوطنية للصحة النفسية (2024–2030)، بغياب نظام رصدٍ شامل وناضج، ما يجعل القراءة الدقيقة للمنحنيات محاطةً دائمًا بهوامش نقص في الإبلاغ. الخلاصة المهنية: الاتجاهات مفيدة، لكنّها ليست "حكمًا نهائيًا" على الواقع.
وراء الأرقام قصص معيشية أخرى.. خسائر عمل، ضغوط ديون وإيجارات، اضطراب عائلي، وصدمة حربٍ ممتدّة. كل ذلك يُحوّل "الأمان النفسي" إلى ملفٍّ أمنيٍّ بمعناه الاجتماعي. ليس صدفةً أن تُظهر المؤشّرات أن شخصًا واحدًا في
لبنان يُفقد حياته انتحارًا كل يومين تقريبًا، وأن محاولات الانتحار تحدث على فواصل ساعات وإشارات تستدعي استجاباتٍ مجتمعية وإعلامية أكثر مسؤولية، وهنا المصيبة الأكبر.. أمنٌ يُقاس بما بعد الخبر، فالتراجع الدوري في بعض المؤشرات، حين يتزامن مع عملٍ يوميٍّ على تفكيك الشبكات، يعني أن "السياسة الأمنية" تُنتج فرقًا ملموسًا عندما تُموَّل وتُضبط وتُحاسَب. لكن
الفجوة بين الإحصاء والإحساس العام لا تُردَم بالأرقام وحدها. فالارقام تؤكّد أن جزءا كبيرا لا يستهان به من اللبنانيين فقد الثقة، ولو بشكل غير صريح، ولعل التسلح، وشبح ظاهرة الأمن الفردي تؤكّد أن "لا ثقة" طالما أن أخبار الجرائم الكبيرة تتوالى في بلد مساحته لا تتعدى 10452 كلم2.
"سفّاح التاكسي" ليس فقط سردًا لجرائم مضت، بل مرآةٌ تُري بيروت وجهها من خلالها عند مفترقٍ جديد.. مدينةٌ تتعلّم أن الأمن ليس خبرًا عابرًا، وأن الحياة النفسية جزءٌ من
الأمن العام. بين غرفة المونتاج وغرفة العمليات، وبين نشرات التوقيف وتقارير الصحة النفسية، يُصاغ مستقبل الأمان في لبنان: يقاس بالأرقام، ويُختبر بالإحساس، ويُبنى بالثقة.